خطبة شمولية العبادة في الإسلام.pdf


شمولية العبادة في الإسلام

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

إخوة الإسلام حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن شمولية العبادة في الإسلام إذ أن العبادة أيها الأحباب لا تقتصر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فحسب فميدان العبادة يتسع ليشمل شتى مناحي الحياة فأعيروني القلوب والأسماع .........................

تعريف العبادة:

إخوة الإيمان أحباب النبي العدنان صلى الله عليه وسلم: إن مفهوم العبادة في الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهي تتضمن غاية الذل والحب. إذ تتضمن غاية الذل لله تعالى مع المحبة له، وهذ المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام جميعا، وهو ثابت من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ, فما من نبي إلا أمر قومه بالعبادة، قال الله تعالى ((وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون))

العبادة حق الله على عباده:

أيها الأحباب: العبادة في الإسلام حق واجب من حقوق الله تعالى على عباده؛ يقول مُعَاذٍ رضي الله عنه: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذ؛ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟». قلتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ! قالَ: «فإنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ: أَنْ لا يُعَذبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فقلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَفلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لا تُبَشِّرْهُمْ فيَتَّكِلوا» ([1]).

شمولية العبادة:

إخوة الإسلام: عندما نتكلم عن شمولية العبادة فإننا نركز على عدة مجالات نذكر منها:

المجال الأول: العلاقة بين الله عز وجل وبين عبده:

 إخوة الإسلام لقد امرنا الله تعالى بعبادات كثيرة أعظمها الأركان الخمسة التي افترضها الله تعالى علينا.................... 

أن نقر له سبحانه بالربوبية و الألوهية فالله تعالى هو الذي خلق الخلق ليفردوه بالعبادة والطاعة لذا جاء الأمر بها في آيات كثيرة {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء: 36] وقال سبحانه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77] وقال {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [النجم: 62]

 وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم و التسليم لسنته عبادة لله وحده { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [الأنفال: 20]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33]

 و إقامة الصلاة التي هي الركن الثاني من اجل العبادات المقربة إلى الله تعالى  و كذا إيتاء الزكاة لذا نرى الله تعالى دائما يجمع بين العبادة البدنية  الروحية و العبادة المالية {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة: 43]

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]

وكذا الصوم والحج وهناك عبادة قلبية مثل الحب والبغض والخوف والرجاء والرغبة والرهبة  .........................

فحقيقة العبادة: هي استسلام القلب والجوارح لله حبًا وخضوعًا له، وخوفًا من عقابه، لا شريك له في شيءٍ من ذلك ألبته، فهو المستحقُّ للعبادة وحده دون ما سواه.

المجال الثاني العلاقة بينك وبين أخيك المسلم:  

 فالإسلام ليس محرابا فحسب وإنما هو دين ودينا......................................

 واعملوا أن العلاقة بينك وبين أخيك المسلم  تكون عبادة من أجل العبادات متى أخلصت فيها لله تعالى  فكلُّ ما أُمر به شرعًا سواءً كان من الشعائر أو من سائر أحوال الناس إذا ابتغى به فاعله وجه الله - عزَّ وجل - فهو عبادة سواء رتّب الشارع عليه جزاءً مُحدَّدًا أو أتى الأمر به مُطلقًا دون تحديد جزاء، وهذا من فضل الله ورحمته بعباده، فمثال ما رُتِّب على فعله جزاء ويحصل للمسلم هذا الجزاء إذا كان إنما فعله من أجل الله ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» ([2]).

فاشتمل الحديث على بعض الآداب، وجعل الشارع القيام بها عبادة يُثاب عليها المسلم إذا نوى أنه إنما قام بها من أجل الله عزَّ وجل، كما أن التحلِّي بالأخلاق يُعتبر عبادةً أيضًا، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق»([3]).

فمن العبادة أن تحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك : عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو لجاره، ما يحب لنفسه)).([4])

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَفْضَلَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحَبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ»

المجال الثالث عمارة الكون والسعي في طلب الرزق عبادة:

وليس من شك في أن عبادة الله هي الأصل والأساس إذ يقول سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات، ولكن العبادة المقصودة بحكم النص القرآني أن الإنسان العابد لا بد أن يكون عاملا منتجا، باعتبار أن العمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، وفى هذا يقول -سبحانه وتعالى-: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) سورة الحـج.

كما يقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) سورة القصص، ويقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) سورة الجمعة.

وقال -صلى الله عليه وسلم- في أمر الدنيا وعمارتها: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن قَامَت السَّاعَة وبيه أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ

اللَّفْظُ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ فَاسْتَطَاعَ ([5])

وفي هذا الحديث "مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجئ بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا".

إخوة الإسلام لقد ملك هذه الدنيا أنبياء وصالحون مصلحون فعم بهم الخير، واستنارت البشرية بحكمهم، وسعدت المعمورة، أمثال نبي الله سليمان عليه السلام والعبد الصالح ذي القرنين، ونبي الله يوسف عليه السلام فإنه كان مسؤولاً كبيراً في دولة ملك مصر وكان له فيها تصرف في الأموال، ومع كل هذا لم ينسوا الله ولقاءه، ولم تشغلهم الدنيا عن العمل للدار الآخرة، بل كانوا مع مُلكهم ونبوتهم من أفضل عباد الله تقربا إليه، وعبادة له وإحسانا إلى خلقه..

السعي في طلب الرزق عبادة: يعبر عن ذلك المعنى احاديث كثيرة نذكر منها : وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟) (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وَمَا سَبِيلُ اللهِ إِلَّا مَنْ قَتَلَ؟) (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا , فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ , فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا , فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَتَفَاخُرًا , فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ") ([6])

بين - صلى الله عليه وسلم - أن المجد لكسب رزقه وجلب قوته وقوت أهله عمل صالحا، وجاهد في طاعة الله، واكتسب ثوابا جليلا وعده كالدفاع في سبيل نصر دين الله، وكذا الإنفاق على الوالدين وجلب برها وإطاعتهما والإحسان إليهما، وكذا لينفق على نفسه، ويغتني عن الناس ويبعد عن سؤالهم ويتعفف، كل ذلك يضاعف الثواب، ويجعله في صفوف المجاهدين الذابين عن الدين، ثم بين - صلى الله عليه وسلم - سعى رجل للعز، والأبهة، والافتخار، والسمعة، والصيت، وهكذا من أعمال السفهاء الأدنباء المغرورين أتباع الشياطين فلا ثواب له في كده ولا أجر له في عمله لأنه لا يريد وجد الله تعالى. قال الله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19] ، هذه الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم، ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها (مدحورا) مطروداً من رحمة الله تعالى (مشكورا) مقبولا عند الله تعالى.

، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قال رسول الله صلى ، إِنَّكَ يَا سَعْدُ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» ،

عنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ، يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ قَالَ: "وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ وَتَصُومُونَ وَتَحُجُّونَ " قُلْتُ: يَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ قَالَ: "وَأَنْتَ فِيكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُكَ الْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُكَ الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ، وَبَيَانُكَ عَنِ الْأَرْثَمِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ امْرَأَتَكَ صَدَقَةٌ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي حَرَامٍ، أَكُنْتَ تَأْثَمُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ " ([7])

وحثّ على الزراعة وتشجير الأرض منعا للتلوّث؛ ونشراً للخضرة والخير ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أُكِلَ مِنْهُ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ مِنْهُ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ". ([8]).

 إخوة الإيمان إن شمولية الإسلام أذهلت الكفار قديماً وحديثاً، فمن الغريب جداً أن يعتقد بعض المسلمين اليوم أن الدين مقصور على جوانب دون جوانب. روى مسلم في صحيحه عَنْ سَلْمَانَ الفارسي -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ هَذَا لَيُعَلِّمُكَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعَلِّمُكُمُ الْخِرَاءَةَ!. قَالَ: قُلْتُ: لَئِنْ قُلْتُمْ ذَاكَ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَدْبِرَهَا، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا، أَوْ يَكْتَفِيَ أَحَدُنَا بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ"  ([9]).

فانظروا كيف أن المشركين -وفي بعض الروايات أنهم اليهود-استغربوا من هذا الدين العظيم وشموليته التي تعم كل شيء، حتى تعجبوا أنه علمهم كيف يستنجون؟ وكيف يبولون ويتغوطون؟ فيأمرهم بأن يستنجوا بثلاثة أحجار، ولا يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو غائط.

الخطبة الثانية

المجال الرابع شمولية العبادة في معاملة غير المسلمين:

و علموا بارك الله فيكم : أن معاملة غير المسلمين تكون عبادة من صميم العقيدة الإسلامية  إذ أنها مبنية على اوثق عرى الإيمان الولاء و البراء .......................................

فالولاءُ والبراء أوثق عرى الإيمان، عن ابن عباس أنّه قال: "قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لأبي ذرٍ يا أبا ذرٌّ أيُّ عُرَا الإِيمانِ أَوْثَقُ؟ قال: اللَّهُ ورسولهُ أعلمُ! قال: ((أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ: الْمُوَالاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ تعالى) ([10])

وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِسْلاَمِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ ِللهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.).([11])

فلذلك خاطب الله عباده الموحدين بوصف الإيمان في مقام النهي عن تولي الكافرين.

قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران: 28].

والإحسان إلى غير المسلمين وعدم اعتداء عليهم بغير حق عبادة :

الإحسان لغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية من الوسائل الهامة في دعوتهم، فقد شرع الإسلام لغير المسلمين من الذميين والمستأمنين المعاملة الحسنة قَالَ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المُمْتَحَنَة: 8]

  عن ميمون بن مِهْران قال: "ثلاث تؤدَّى البر والفاجر: الرحم توصل بَرَّة كانت أو فاجرة، والأمانة تُؤَدَّى إلى البَرِّ والفاجر، والعهد يُوَفَّى للبَرِّ والفاجر"([12]).

وفي رواية إسناد رجالها ثقات أيضاً عن ميمون بن مهران بلفظ: "ثلاث المسلم والكافر فيهن سواء.." وفيه: "ومَن كان له رحم فليصلها مسلماً كان أو كافراً"([13]).

وأخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه أهدى حُلَّة لأخ له بمكة كان مشركاً"([14]).

ومما يستفاد من هذه الرواية أن ذوي الأرحام يوصلون ولو كانوا حربيين بما لا يفضي بمضرة للمسلمين؛ لأن عمر رضي الله عنه عندما أرسل بالهدية لأخيه إنما فعل ذلك ليتألف قلبه..

المجال الخامس: شمولية العبادة حتى في التعامل مع الحيوانات العجماوات:

إخوة الإسلام: الإسلام صلة بين الإنسان والحيوانات: وجعل إحسان إلى تلك العجماوات من العبادات والطاعات التي تقرب من رب الأرض والسماوات وسبيل إلى مغفرة الزلات.

 روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ: فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ "([15])

فالرحمة بالحيوان عبادة بنظر الإسلام تجلب الثواب والمغفرة، والقسوة على الحيوان والغلظة عليه مما يتسبب في هلاكه جريمة بنظر الإسلام يعاقب الله عليها بالعذاب الأليم يوم القيامة، وهذا المفهوم وضحه حديث ابن عمر أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ حبسَتْها حتى ماتت، فقيل لها: لا أنت أطعمْتِيها، ولا سقيْتِيها، ولا أرسلْتِيها تأكلُ من خَشاشِ الأرض". ([16])

الدعاء ....................................

 



[1] - البخاري كتاب اللباس باب إرداف الرجل خلف الرجل (5967). مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (30).

[2] -أخرجه البخاري (5/ 226) في الصلح، ومسلم رقم (1009) في الزكاة.

[3] -أخرجه مسلم رقم (2626) في البر والصلة.

[4] - جامع الصحيحين بحذف المعاد والطرق لابن الحداد (517) (1/ 85)

[5] - المسند ج 3/  ص 191 حديث رقم: 13004

[6] - المعجم الأوسط (7/ 56) (6835) والمعجم الكبير للطبراني (19/ 129) (282) صحيح لغيره

[7] - مسند أحمد ط الرسالة (35/ 291) وأخرجه البيهقي في "السنن" 6/82، وفي "شعب الإيمان" (7619)

[8] - صحيح البخاري 2320 وأخرجه مسلم في المساقاة باب فضل الغرس والزرع رقم 12 (1553)

[9] -[أخرجه مسلم (262)]

[10] - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 215، الحديث (11537)، وذكره الخطيب التبريزي في المشكاة 3/ 1396، الحديث (5014)،

[11] - أخرجه البخاري (21)، ومسلم (43)، والنسائي (8/ 96).

[12] - أخرجه ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، كتاب السير، باب: ما قالوا في العهد يوفى به للمشركين، برقم (32855) (6/451). والمروزي، البر والصلة، برقم (131) (ص:69)

[13] - المروزي، البر والصلة، برقم (137)، (ص:72)

[14] -  البخاري، كتاب الجمعة، باب: يلبس أحسن ما يجد، برقم (846) (1/302)، وكتاب الهبة وفضلها، باب: هدية ما يكره لبسه، برقم (2470) (2/921).

[15] - أخرجه البخاري في: 42 كتاب المساقاة: 9 باب فضل سقي الماء

[16] - أخرجه البخاري (2/834، رقم 2236) ، ومسلم (4/1760، رقم 2242)


رابط تحميل الخطبة 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf