التجلية عن صفات أهل الفداء التضحية.pdf
التجلية عن صفات أهل الفداء والتضحية
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
أما بعد : .................... حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن
صفات أهل الفداء والتضحية عن هؤلاء الأبطال الذين سطروا صحائف من نور عبر التاريخ
................ عن هؤلاء الأبطال الذي يحمون الزمار ويدافعون عن الديار و يرفعون راية العزيز القهار ...................
عن هؤلاء الأبطال الذين تذوقوا حلاوة الإيمان وشاهدوا ما اُعد لهم في الجنان
فحملوا أرواحهم على أكفهم يرجون الشرب من كأس الشهادة في سبيل الله
...................... عن هؤلاء الأبطال الذين هم الصمام و الأمان للضعفاء و الأطفال
و النساء ..............هؤلاء الأبطال الذين ابطلوا مكائد كل كفار عنيد و كل مخرب
شديد فأذاقوهم كأس الذل و الهوان ............ فأعيروني القلوب و الأسماع أيها الأحباب
.........................
أولا: الإيمان
العميق:
إخوة الإسلام: إن الإيمان هو المحرك
الأساسي لأهل التضحية و الفداء ....أهل الإيمان لا يتحركون إلا بتلك العقيدة
القوية التي متى تذوقها العبد هان عليه كل غال و رخيص قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111]
أنا مُسْلِمٌ وأقُولُها مِلءَ الوَرَى ... وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وسُؤْدُدِي
سَلْمَانُ فيهَا مِثْلَ عَمْرٍو لا تَرَى ... جِنْسًا عَلَى جِنْسٍ يَفُوقُ
بِمَحْتَدِ
وبِلالُ بالإيمانِ يَشْمَخُ عِزُّةً ... ويَدُقُّ تِيجَانَ العَنِيدِ المُلْحِدِ
وخُبيبُ أخْمَدَ في القَنَا أنْفَاسَهُ ... لَكِنَّ صَوْتَ الحَقِّ لَيْسَ بمُخْمَدِ
ورمَى صُهَيْبُ بِكُلِّ مَالٍ لِلْعِدَا ... ولِغَيْرِ رِبْحِ عَقِيدَةٍ لَمْ
يَقْصِدِ
إن العقيدَةَ في قُلوبِ رجَالِهَا ... مِنْ ذَرَّةٍ أقْوَى وألِفِ مُهَنَّدِ
الإيمان بالله هو الذي دفع آسية امرأة
فرعون أن تضحي بالمنصب و الجاه و الخدم و الحشم كل ذلك لا شيء بدون الإيمان بالله
تعالى .......و الإيمان بالله هو كل شيء { وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ } [التحريم: 11]
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:(ومن فضائل
آسية امرأة فرعون أنها اختارت القتل على الملك، والعذاب في الدنيا على النعيم الذي
كانت فيه) ([1]).
المسلمون
يوم مؤته و التضحية و الفداء
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: شهدت يوم
مؤتة .. فلما دنا منا المشركون .. رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة .. والسلاح ..
والكراع .. والديباج .. والحرير .. والذهب .....فبرق بصري .. ...فقال لي ثابت بن أرقم:
يا أبا هريرة .. كأنك ترى جموعاً كثيرة؟
قلت: نعم .....قال: إنك لم تشهد بدراً معنا
.. إنا لم ننصر بالكثرة ......ثم التقى الناس فاقتتلوا ..
فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حتى كثرت عليه الرماح وسقط صريعاً شهيداً - رضي الله عنه - ..
فأخذ الراية جعفر بكل بطولة .. فاقتحم عن
فرس له شقراء فجعل يقاتل القوم .. وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت .....فأخذ
اللواء بشماله فقطعت .....فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ..
قال ابن عمر: وقفت على جعفر يومئذ .. وهو
قتيل .. فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره ...... فأثابه الله بذلك
جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء ..
إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعته
نصفين ......فلما قتل جعفر .. أخذ عبد الله بن رواحة الراية ..ثم تقدم بها وهو على
فرسه ..فجعل يستنزل نفسه .. ويتردد بعض التردد .. ويقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنة
ثم قال:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل .. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق
من لحم ..شد بهذا صلبك .. فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ..فأخذه من يده فانتهش
منه نهشة .. ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ..فقال: وأنت في الدنيا! فألقاه من يده
.. ثم أخذ سيفه ثم تقدم ..فقاتل حتى قتل - رضي الله عنه - ..
فوقعت الراية .. واضطرب المسلمون .. الكافرون
..والراية تطؤها الخيل .. ويغلوها الغبار ..
فأقبل البطل ثابت بن أرقم ..ثم رفعها
.. وصاح ..يا معاشر المسلمين .. هذه الراية .. فاصطلحوا على رجل منكم ..فتصايح من سمعه
وقالوا: أنت .. أنت ..قال: ما أنا بفاعل ..فأشاروا إلى خالد بن الوليد ..فلما أخذ الراية
.. قاتل بقوة .. حتى إنه كان يقول:لقد اندقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي
في يدي إلا صفيحة يمانية ..ثم انحاز خالد بالجيش .. وانحاز الروم إلى معسكرهم ..
خشي خالد أن يرجع بالجيش إلى المدينة من
ليلته .. فيتبعهم الروم ..فلما أصبحوا .. غير خالد مواقع الجيش ..فجعل مقدمة الجيش
.. في المؤخرة ..وجعل مؤخرة الجيش مقدمة ..ومن كانوا يقاتلون في يمين الجيش .. أمرهم
بالانتقال إلى يساره ..وأمر من في الميسرة أن يذهبوا للميمنة ..فلما ابتدأ القتال
.. وأقبل الروم ..
فإذا كل سرية منهم ترى رايات جديدة .. ووجوهاً
جديدة ..فاضطرب الروم .. وقالوا: قد جاءهم في الليل مدد .. فرعبوا في القتال ..فقتل
المسلمون منهم مقتلة عظيمة .. ولم يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً ..
وانسحب خالد بالجيش .. آخر النهار من ساحة
القتال .. ثم واصل مسيره نحو المدينة ..
ثانيا: الصبر
و الثبات :
إخوة الإسلام إن من صفات أهل
التضحية و الفداء الصبر و الثبات أمام الشدائد و الأهوال فهم جبال راسية قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران:
200].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع أسمك
فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالا في الجبال و ربما سرنا
علي موج البحار بحارا
بمعابد الأفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصار
فالله- سبحانه وتعالى- يجزي
المؤمن على صبره، كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ
عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ
مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ
هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} [المؤمنون: 109 - 111]،فأخبر سبحانه أنه جزاهم على
صبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
أي: أتصبرون على البلاء، فقد
عرفتم ما وجد الصابرون، فقرن الله -سبحانه- الفتنة بالصبر ها هنا، وفي قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا
ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(110)} [النحل: 110].
سقيناهموا كاسا سقونا بمثلها و لكننا كنا عل الموت اصبرا
ها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع
المؤمن بالله كان عائدا من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمة خرسان، سمع به إمبراطور
القسطنطينية رومانس.
فجهز جيشا قوامه ست مائة ألف مقاتل، والله
ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملئها الخور والضعف والهون.
جاء الخبر لأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل
في سبيل لا إله إلا الله.
انظروا ووازنوا بين الجيشين، ستمائة ألف
تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعمائة، هل هذه قوى جسدية ؟ إنها
قوى العقيدة وكفى أيها الأحبة.
نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال
ما بين مصاب وما بين جريح قد أنهكه السير الطويل.
فكر وقدر ونظر في جيشه أيترك هذا الجيش
الكافر ليدخل إلى بلاده ويعيث فيها الفساد، أم يجازف بهذا الجيش، خمسة عشر ألف مقابل
ستمائة ألف.
فكر قليلا ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة
لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش
وخطبهم قائلا:
إن الإسلام اليوم في خطر، وإن المسلمين
كذلك وإن أخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود.
ثم صاح وإسلامهَ، وإسلامه، ها أنا ذا قد
تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك
أو ترفع لا إله إلا الله.
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف............تقيم ظباه اخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل.......... وهذا دواء الداء من كل جاهل
فما هي إلا ساعة ويتكفن الجيش الإسلامي،
وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماوات بصيحات الله كبر، يا خيل الله اثبتي
يا خيل الله اركبي، لا إله إلا الله.
هل سمعتم بجيش مكفن ؟
هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل
المعركة ؟
هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم
في آن واحد ؟
هل تخيلتم صور جيش كامل يسير إلى معركة
يظن ويثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور ؟
التقى الجمعان واصطدم الفئتان، فئة تؤمن
بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوت صيحات الله أكبر،
واندفع كل مؤمن ولسان حاله وعجلت إليك ربي لترضى.
تطايرت رؤوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء،
وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشرا أنهزم الرومان وأسر قائدهم رومانس. الله أكبر،
لا إله إلا الله صدق وعده ونصر جنده.
( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:
من الآية249)
ثالثا: العزة
و الإباء :
إخوة الإسلام و من صفات أهل
التضحية و الفداء العزة و الإباء فهو يعتزون بدينهم و عقيدتهم و ان ذاقوا مرارة العذاب و إن ذقوا آلام القتل و
التعذيب
فهم أعزاء بدينهم و
عقيدتهم قال الله تعالى {يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8]
وتأملوا عزة السلف الصالح
عبد الله بن حذافة السهمي -رضي
الله عنه -.
عن أبي رافع، قال: وجه عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - جيشًا إلى الروم، وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا:
إن هذا من أصحاب محمد، فقال له الطاغية: هل لك أن تتنصر وأشركك في ملكي وسلطاني؟ فقال
له عبد الله: " لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب - وفي رواية القطان:
وجميع مملكة العرب - على أن أرجع عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين، ما
فعلت "، قال: إذا أقتلك، قال: " أنت وذاك "، قال: فأمر به فصلب، وقال
للرماة: ارموه قريبا من يديه قريبا من رجليه وهو يعرض عليه، وهو يأبى، ثم أمر به فأنزل،
ثم دعا بقدر وصب فيها ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي
فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يلقى فيها، فلما ذهب به بكى،
فقيل له: إنه بكى فظن أنه رجع، فقال: ردوه فعرض عليه النصرانية فأبى، قال: فما أبكاك؟
قال: " أبكاني أني قلت هي نفس واحدة تلقى هذه الساعة في هذا القدر فتذهب، فكنت
أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى هذا في الله - رضي الله عنه - "،
قال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ قال عبد الله: " وعن جميع أسارى
المسلمين؟ " قال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال عبد الله: " فقلت في نفسي
عدو من أعداء الله أقبل رأسه ويخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي قال فدنا منه وقبل
رأسه "، فدفع إليه الأسارى، فقدم بهم على عمر فأخبر عمر بخبره، فقال: حق على كل
مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدًا فقام عمر فقبل رأسه ([2]).
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين
والمسلمات، فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛
أما بعد:
رابعا: الإيثار: إخوة الإسلام و من صفات أهل التضحية و الفداء الإيثار فهم يؤثرون رضا الله
تعالى على رضا من سواه ،و هم يؤثرون الأخرة على
الدنيا و هم يؤثون الموت على الحياة قال الله
عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
ومن الناس صنف يشري أي: يبيع
نفسه طلباً لرضوان الله عز وجل.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله:
نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه لما خرج مهاجراً فلحق به بعض المشركين، فالتفت
إليهم، وقال: قد علمتم معشر قريش أني أرمى القوم، يعني: أنه من أحسن الناس رماية، والله
لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم
افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي فأخذتموه، فدلهم على مكان ماله، وأنه تحت
عتبة الباب، فرجع القوم وأخذوا مال صهيب كله، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
له: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) وأنزل الله عز وجل هذه الآية.([3])
فقد ضحى بماله الذي جمعه في سنين من اجل دينه و عقيدته لا من اجل شهوات
ولا نزولات إن الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله موجودون في كل عصر، وهم يبيعون
أنفسهم وأموالهم وحتى راحتهم، ويعيشون ولو في قلق في هذه الحياة من أجل أن يظهر دين
الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يدخلون ضمن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، ولذلك أخبر الله تعالى أن هؤلاء
باعوا أنفسهم وأموالهم على الله بالجنة، كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]،
ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة وقال: (يا رسول الله! ما لنا؟ قال:
الجنة، فقال: يا رسول الله! ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل)([4])،
يعني: لا نريد ثمناً غير هذا.
خامسا:
الشوق إلى لقاء الله:
إخوة الإسلام اعلموا أن
أهل التضحية والفداء الحادي لهم هو الشوق إلى لقاء الله والشوق إلى ما أعده الله
تعالى لهم من نعيم مقيم في دار المقامة
وكان أبو الدرداء -رضي الله
عنه-يقول: أحب الموت اشتياقا لربي.
ويقول عبد الله بن زكريا: لو
خيرت بين أن أعيش مائة سنة في طاعة الله أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه؛ لاخترت
أن أقبض في يومي هذا وساعتي هذه شوقا إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-وإلى
الصالحين من عباده
ويقول عبد الواحد بن زيد: يا
إخوتاه ألا تبكون شوقاً إلى الله؟ ألا من بكى شوقاً إلى سيده لم يحرمه النظر إليه.
و تأملوا أحبابي
في الله إلى أحوال المشتاقين كيف دفعهم
الشوق إلى التضحية و الفداء .....عن أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر، عن
قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين: لئن الله أشهدني
قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون، قال: اللهم
إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين
ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها
من دون أحد، قال: سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا بضعا
وثمانين ضربه بالسيف أو طعنه بالرمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثل به المشركون
فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ([5]).
كان
عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله
- رضي الله عنه - قد عذرك فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني يريدون
أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك وقال
لبنيه: ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة. فخرج معه فقتل. يوم أحد شهيدًا
([6]).
الدعاء
.........................
[1] - فتح الباري- كتاب أحاديث الأنبياء- قوله باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} - حديث رقم: 3230 ج:
6 ص: 448.
[2] - تحفة الواعظ للخطب والمواعظ الف قصة و قصة (ص: 143)
[3] - أخرجه ابن سعد (3/228) ، والحارث كما فى زوائد الهيثمى (2/693، رقم
679) ، وأبو نعيم (1/151) ، وابن عساكر (24/228)
[4] - «تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث»
(14/ 499):
[5] - أخرجه: البخاري 4/ 23 (2805)، ومسلم 6/ 45
(1903) (148)
[6] - تحفة الواعظ للخطب والمواعظ (ص: 36)
تعليقات
إرسال تعليق