خطبة ما نفعتهم قصورهم في قبورهم.pdf
ما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟ ([1])
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى
بالموت آمال القياصرة، فنقلهم الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى
ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان،
ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب
أحمدك يا رب واستعينك وأستهديك، لا أحصى ثناء عليك،
أنت كما أثنيت على نفسك جل ثناؤك وعظم جاهك، ولا اله غيرك، اشهد أن لا اله إلا
الله وحده لا شريك له ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول -أنا الملك لمن
الملك اليوم، ثم يجيب على ذاته سبحانه = لله الواحد القهار سبحانه سبحانه سبحانه،
ذو العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الذي لا يموت سبحان من كتب
الفناء على الخلائق ولا يموت
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا نبيه ورسوله وصفيه من
خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للامة فكشف الله به الغمة، وجاهد في
الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى،
ويخطو على جمر الكيد والعنت يلتمس الطريق لهادية الضالين وإرشاد الحائرين حتى علم
الجاهل وقوم المعوج وامن الخائف وطمان القلق ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد
والإيمان كما تنشر الشمس أضواءها في سائر الأكوان
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه رفع الله له ذكره
وشرح الله صدره ووضع الله عنه وزره وزكاه ربه على جميع الخلق ومع ذلك خاطبه إنك
ميت وانهم ميتون [الزمر].
قال تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ
سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يُمَتَّعُونَ ) [ الشعراء:205- 207 ]هذه الآية صدعت قلب ميمون ابن مِهران لما ذهب
إلى الحسن البصري يلتمس منه الموعظة، فقال له: يا أبا سعيد إني آنست في قلبي غلظه
فاستلن لي أي قل لي شيئا يلينه فتلى عليه الحسن هذه الآيات من آخر سورة الشعراء ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ
مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ )
فلما سمعها ميمون أُغشِيَ عليه ، فلما أفاق وخرج مع ابنه عمرو قال عمرو لأبيه يا
أبت أهذا هو الحسن ؟ لم يقل شيئا،
وكان عمرو يتصور أن الحسن سيلقى خطبه عصماء على ما
هو مشهور من كلام الحسن البصري الذي قال فيه بعض أهل العلم أن كلامه يشبه كلام
الأنبياء، قال عمرو: فضرب أبى صدري بيده وقال يا بني لقد تلا عليك آيات لو تدبرتها
بقلبك ألفيت لها كلومًا فيه وكلومًا "([2])
جمع كلم وهو الجرح أي هذه الآيات لو تدبرتها بقلبك
لا تغادر سمعك إلا وقد جرحت هذا القلب لقوتها (أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).
عن عبد العزيز بن مروان ، قال : وفدت إلى سليمان بن
عبد الملك ، ومعنا عمر بن عبد العزيز ، فنزلت على ابنه عبد الملك بن عمر ، وهو عزب
، فكنت معه في بيت ، فصلينا العشاء ، وأوى كل رجل منا إلى فراشه ، ثم قام عبد
الملك إلى المصباح فأطفأه ، وأنا أنظر إليه ، ثم قام يصلي حتى ذهب بي النوم ،
فاستيقظت ، وإذا هو في هذه الآية أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا
يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون فبكى ، ثم رجع إليها ، فإذا فرغ منها فعل
مثل ذلك ، حتى قلت : سيقتله البكاء ، فلما رأيت ذلك قلت : لا إله إلا الله ،
والحمد لله ، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه ، فلما سمعني ، سكت فلم أسمع له
حسا ([3]
)
وكان الربيع بن خثيم إذا وجد في قلبه قسوةً أتى
منزل صديق له قد مات في الليل، فنادى يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان. ثم يقول:
ليت شعري ما فعلت، وما فعل بك، ثم يبكي حتى تسيل دموعه، فيعرف ذاك فيه إلى مثلها)
([4]
)
فأيها المحزون المكروب، المهموم المغموم، الخائف المبتلى،
أبشر إن دخلت الجنة، فغمسة واحدة تكفي لغسل كل ما مضى من بلاء وشدة فما بالك
بالخلود الأبدي، والنعيم السرمدي الذي لا ينقطع، ومجاورة الطيبين الكرام.
ويأيها الظلوم الغشوم، القاتل السفاح، أبشر بما
يسوءك -إن دخلت النار-فغمسة واحدة تكفي لتنسى لذات الدنيا، وشهوة السلطة، وسكرة
الشهرة، وكنز الأموال، فضلا عن مكث لا يعلم مداه إلا الله مع عذاب مهين، وجوار
خبيث، وأبواب موصدة، ونار موقدة.
عن أنس -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم -: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في
النار صبغة (([5]
)) ، ثم يقال : يا ابن آدم ، هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله
يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال
له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس
قط، ولا رأيت شدة قط)) ([6]
) رواه مسلم .
أين الذين كانوا في اللذات يتقلبون ويتجبرون على
الخلق ولا يغلبون مزجت لهم كؤوس المنايا فباتوا يتجرعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}
مدوا أيديهم إلى الحرام وأكثروا من الزلل والآثام
وكم وعظوا بمنثور ومنظوم من الكلام لو أنهم يسمعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}
حمل كل منهم في كفن إلى بيت البلى والعفن وما صحبهم
غيره من الوطن من كل ما كانوا يجمعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}
ضمهم والله التراب وسد عليهم في ثراهم الباب وتقطعت
بهم الأسباب والأحباب يرجعون {ما أغنى عنهم ما كانوا
يمتعون} أين أموالهم والذخائر أين أصحابهم والعشائر دارت على القوم
الدوائر ففيم أنتم تطمعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}
شغلوا عن الأهل والأولاد وافتقروا إلى يسير من
الزاد وباتوا من الندم على أخس مهاد وإنما هذا من حصاد ما كانوا يزرعون {ما أغنى
عنهم ما كانوا يمتعون}
أين الجنود والخدم أين الحرم والحرم أين النعم
والنعم بعد ما كانوا يربعون فيما يرتعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} لو رأيتهم
في حلل الندامة إذا برزوا يوم القيامة وعليهم للعقاب علامة يساقون بالذل لا
بالكرامة إلى النار فهم يوزعون {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}
يا معشر العاصين قد بقي القليل والأيام تنادي قد
دنا الرحيل وقد صاح بكم إلى الهدى الدليل إن كنتم تسمعون {ما أغنى عنهم ما كانوا
يمتعون}.([7]
)
عن جرير بن عبد الله قال افتتحنا بفارس مدينة
فدللنا على مغارة ذكر لنا أن فيها أموالًا فدخلناها ومعنا من يقرأ بالفارسية
فأصبنا في تلك المغارة من السلاح والأموال شيئًا كثيرًا ثم صرنا إلى بيت يشبه
الأزج عليه صخرة عظيمة فقلبناها وإذا في الأزج سرير من ذهب عليه رجل وعليه حلل قد
تمزقت وعند رأسه لوح فيه مكتوب فقرئ لنا فإذا فيه أيها العبد المملوك لا تتجبر على
خالقك ولا تعد قدرك التي جعل الله لك واعلم أن الموت غايتك وإن طال عمرك وأن
الحساب أمامك وأنك إلى مدة معلومة تترك ثم تؤخذ بغتة أحب ما كانت الدنيا إليك فقدم
لنفسك خيرًا تجده محضرًا وتزود لنفسك من متاع الغرور ليوم فاقتك أيها العبد الضعيف
اعتبر بي فإن في معتبرًا أنا بهرام بن بهرام ملك فارس كنت من أعلاهم بطشًا وأقساهم
قلبًا وأطولهم أملًا وأرغبهم في اللذة وأحرصهم على جمع الدنيا قد جبيت البلاد
النائية وقتلت الملوك الساطية وهزمت الجيوش العظام وعشت خمسمائة عام وجمعت من
الدنيا ما لم يجمعه أحد قبلي فلم أستطع أن أفتدي نفسي من الموت إذ نزل بي
وقال محمد بن سيرين أخذت معاوية قرة أي من البرد
فاتخذ أغشية خفافا فكانت تلقى عليه فلا يلبث أن ينادى ادفعوها فإذا أخذت عنه سأل
أن ترد عليه فقال قبحك الله من دار مكثت فيك عشرين سنة أميرًا وعشرين سنة خليفة ثم
صرت إلى ما أرى وكان عبد الملك بن مروان يقول عند موته والله وددت أني عبد لرجل من
تهامة أرعى غنيمات في جبالها ولم أكن ألي من هذا الأمر شيئًا. ( [8])
أخي المسلم تأمل في هذا المشهد الذي يبن لك حقيقة
الدنيا وأنها لا تنفع من خدمها وسعى في جمعها
هذا المشهد بطله هارون الرشيد ذاك الذي ملك الأرض
وملأها جنودًا. ذاك الذي كان يرفع رأسه. فيقول للسحابة: أمطري في
الهند أو الصين. أو حيث شئت. فو الله ما تمطرين في
أرض إلا وهي تحت ملكي.
هارون الرشيد. خرج يومًا في رحلة صيد فمر برجل يقال
له بهلول.
فقال هارون: عظني يا بهلول.
قال: أمير المؤمنين!! أين آباؤك وأجدادك؟
قال هارون: ماتوا.
قال: فأين قصورهم...؟
قال: تلك قصورهم.
قال: وأين قبورهم؟
قال: هذه قبورهم.
فقال بهلول: تلك قصورهم. وهذه قبورهم. فما نفعتهم
قصورهم في قبورهم؟
قال: صدقت. زدني يا بهلول.
قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة، فليت قبرك بعد
الموت يتسع.
فبكى هارون وقال: زدني.
فقال يا أمير المؤمنين: هب أنك ملكت كنوز كسرى
وعمرت السنين فكان ماذا؟ أليس القبر غاية كل حي وتسأل بعده عن كل هذا؟
قال: بلى.
ثم رجع هارون.... وانطرح على فراشه مريضًا.... فلما
حضرته الوفاة.. وعاين السكرات.... صاح بقواده وحجابه: اجمعوا جيوشي.. فجاءوا
بهم.... بسيوفهم.... ودروعهم.... لا يكاد يحصى عددهم إلا الله.... كلهم تحت قيادته
وأمره.. فلما رآهم. بكى. ثم قال: يا من لا يزول ملكه.... ارحم من قد زال ملكه....
قال: أحضروا لي أكفانًا.... فأحضروا له.... فقال: احفروا لي قبرا.... فحفروا
له.... فنظر إلى القبر وقال: ما أغنى عني ماليه... هلك عني سلطانيه.... ثم لم يزل
يبكي حتى مات ([9])
سل الخليفة إذ وافت منيته أين الجنود أين الخيل
والخول
أين الكنوز التي كانت مفاتحها تنوء بالعصبة المقوين
لو حملوا
أين الجيوش التي أرصدتها عدداً أين الحديد وأين
البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد إلا أناخ عليه الموت
والوجل
والله إنه مشهد رائع... وحوار كله عبر وعظات وتذكرة
لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا... أنا أروي لكم هذا المشهد في هذه الجمعة لأننا
أصبحنا نرى دنيا يأكل بعضها بعضًا...
لأننا نرى الكثير من المسلمين في دنيا اليوم قد
اشتغلوا بأمر الدنيا وتركوا أمر الآخرة... اشتغلوا بخدمة المخلوقين وتركوا خدمة
الخالق... اشتغلوا بتزين ظواهرهم وتركوا تزين بواطنهم اشتغلوا بعيوب الناس وتركوا
عيوب أنفسهم... اشتغلوا بعمارة القصور وتركوا عمارة القبور...
أحببت أن أجعل هذه الجمعة مواعظ.... أُذكّر فيها
إخواني بأن الدنيا هي مزرعة الآخرة فلابد على كل مسلم أن يتخذ له زادًا يوصله إلى
الآخرة من قبل أن يأتي الذي يتمنى أن يعود إلى الدنيا لكي يتزود من الطاعة فلا
يسمح له....
واسمع إلى كتاب الله وهو يحدثنا عن هذه الحقيقة
فيقول الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]
قال أهل التفسير عن هذه الآية: قال قتادة: (ما تمنى
أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع
ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب).
وهذا سيدنا الحسن البصري -رحمه الله -رأى شيخًا في
جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ! أسألك بربك.... أتظن أن هذا
الميت يوّدُ أن يٌرد إلى الدنيا فيتزود من عمله الصالح.. ويستغفر الله من ذنوبه
السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم... فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كلنا كهذا
الميت!! ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة... ولكن لا حياة
لمن تنادي!!
إذا قسى القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن أسبخت لم
ينفع المطر
ما نفعتهم قصورهم في قبورهم: ومن المشاهد التي تجعل
العبد ينزجر ولا يتكالب على حطام الدنيا مشهد عبد الملك بن مروان بن الحكم، خامس
الخلفاء الأمويين. كان من أعظم خلفاء بني أمية، لقب ب (أب الملوك) لأن أربعة من
أبنائه تولوا الخلافة من بعده (الوليد -سليمان -يزيد الثاني-وهشام)، كان واسع
العلم متعبدًا ناسكًا شجاعًا قويًا، توسعت الدولة الأموية في عهده وازدهرت وكانت
دمشق عاصمة الدولة منارة للعلم وأعظم مدن العالم الإسلامي.
لما نزل به الموت. ...جعل يتغشاه الكرب.... ويضيق
عليه النفس.. فأمر بنوافذ غرفته ففتحت فالتفت فرأى غسالاً فقيرًا في دكانه. فبكى
عبد الملك ثم قال: يا ليتني كنت غسالاً. ...يا ليتني كنت نجارًا...... يا ليتني
كنت حمَّلاً...... يا ليتني لم أل من أمر المؤمنين شيئًا...... ثم مات.... هذا حال
الصالحين من هذه الأمة!! فماذا سيقول الذي ظلم العباد ونشر الفساد؟ ماذا سيقول
الذي زور وأكل حقوق الآخرين؟ ماذا يقول الذي قطع صلته بالمساجد، والذي ربى أولاده
على الفساد؟!
الخطبة الثانية
أما بعد:
إخواتاه هل وقفتم يوما على المقابر ورأيتم ما رأى
بلهول رحمه الله -هذا مالك بن دينار -رحمه الله-يقول: أتيت المقابر يومًا لأنظر في
الموتى واعتبر، وأتفكر فيها واتعظ فجعلت أجول بين المقابر وأُنشد:
أتيت القبور فساءلتها أين المعظم والمحتقر؟!
وأين المذل بسلطانه وأين القوي على ما قدر؟!
وإذا بصوت يجيبني:
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخير!!
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور!
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر؟!
قال مالك: فنظرت فإذا ببهلول بن عمر المجنون قاعد
بين القبور وهو ينظر إلى السماء فيبتهل (أي يدعو ويتضرع إلى الله) والى الأرض
فيعتبر (أي يتعظ) وعن يمينه فيضحك؟ وعن يساره فيبكي؟
فقلت له: السلام عليكم يا بهلول.
فقال: وعليك السلام يا مالك بن دينار.
فقلت له: أراك قاعدًا بين القبور.
فقال: قعدت عند قوم لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا
يغتابوني.
فقلت له: أراك تنظر إلى السماء فتبتهل وإلى الأرض
فتعتبر وعن يمينك فتضحك وعن يسارك فتبكي؟
فقال لي: يا مالك:
إذا نظرت إلى السماء تذكرت قوله تعالى:﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾[الذاريات: 22]
فحُقَّ لمن سمع هذه الآية أن يبتهل...
وإذا نظرت إلى الأرض تذكرت قوله تعالى:﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55] فحُقَّ لمن سمع هذه الآية أن يعتبر...
وإذا نظرت عن اليمين تذكرت قوله تعالى:﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ *
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *
عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ *
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 27 - 40] فحُقَّ لمن سمع هذه الآيات أن
يضحك...
وإذا نظرت إلى الشمال تذكرت قوله تعالى:﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا
قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾[الواقعة: 41 -45] فحق لمن سمع هذه الآيات أن يبكي....
ما نفعتم قصورهم في قبورهم
ذكر القرطبي:
أن أحد المحتضرين ممّن بدنياه انشغل وغرّه طول
الأمل لما نزل به الموت واشتد عليه الكرب اجتمع حوله أبناؤه .... يودعونه ......
ويقولون:
قل لا إله إلا الله .... فأخذ يشهق .... ويصيح ....
فأعادوها عليه.
فصاح بهم وقال:
الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا ...... والبستان
الفلاني ازرعوا فيه كذا.
والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا .... ثمّ لم يزل
يردد ذلك حتى مات.
نعم .... مات .... وترك بستانه ودكانه .... يتمتع
بهما ورثته .... وتدوم عليه حسرته.
وذكر ابن القيم:
أن أحد تجار العقار .... ذُكّر بلا إله إلاّ الله
عند احتضاره فجعل يردّد:
هذه القطعة رخيصة ...... وهذا مشترى جيّد .... وهذا
كذا .... وهذا كذا .... حتى خرجت روحه
وهو على هذا الحال ....
ثم دفن تحت الثرى .... بعدما مشى عليه متكبراً ....
قد جمع الأموال .... وكثر العيال .... فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه
الدعاء
.....................................................................
[1] - مستلة من كتابي الخطب والمواعظ الباهرة
في ذكر الموت وأهوال المقبرة
[2] -حلية
الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 83)
[3] - فضائل
القرآن للقاسم بن سلام (2/ 270)
[4] - شعب
الإيمان - البيهقي (7/ 19)
[5] - أي: يغمس
كما يغمس الثوب في الصبغ. النهاية 3/10.
[6] - أخرجه:
مسلم 8/135 (2807) (55) .
[7] - التبصرة ـ
لابن الجوزي (1/ 304)
[8] - القبور
لابن أبي الدنيا (ص: 178)
[9] - قافلة
الداعيات
تعليقات
إرسال تعليق