تكريم الدين للإنسان حيا و ميتا.pdf

تكريم الدين للإنسان حيا وميتا

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

 الحمد لله لم يزل عليّا، ولم يزل في علاه سميّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولاً بهيًا {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنكَانَ تَقِيّاً[[مريم: 63]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران/102}

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) [النساء/1][      

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)  [الأحزاب/69-71][

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد –صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار.

اللهم لا تعذب جمعًا التقى فيك ولك ولا تعذب ألسنًا تخبر عنك ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

جاءت له الدنيا فأعرض زاهدا ... يبغي من الأخرى المكان الأرفعا

من ألبس الدنيا السعادة حلّة ... فضفاضة لبس القميص مرقّعا

وهو الذي لو شاء نالت كفه ... كل الذي فوق البسيطة أجمعا

مسك به اختتم المهيمن رسله ... وأبان أمر الدين والدنيا معا

نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا ... واستكبروا شرع الرماح فأسمعا

والحق ليس بمعتدٍ لكنه ... إن دافعته يد الضلال تدفّعا

بعض الأنام إذا رأى نور الهدى ... عرف الطريق ولم يضل المرجعا

ومن البرية معشر لا ينثني ... عن غيّه حتى يخاف ويفزعا

حديثنا أيها الإخوة الأحباب عن تكريم الدين للإنسان الله قال – عز وجل -: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62][2]؛ وذلك لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لهذا المخلوق، رفض إبليس – لعنة الله عليه – هذا التكريمَ، فكان قولُه كما في الآية قبل.

وفي سياق صريح لهذا التفضيل، قال – تبارك وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70][3]، تفضيلاً له – أي الإنسان – بتسخير المراكبِ، والمستلذات من: اللحوم، والحبوب، والفواكه، وغير ذلك له.

عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قيل للنبي –صلى الله عليه وسلم- من أكرم الناس؟ قال: (أكرمهم أتقاهم) قالوا: يا نبي الله، ليس عن هذا نسألك. قال: (فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله). قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟ قالوا: نعم، قال: (فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).([1])

عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنه- قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة). قال: ( فينزل عيسى ابن مريم –صلى الله عليه وسلم- فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا. فيقول: (لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمه الله لهذه الأمة)([2]).

* تكريم الجنس البشري بحمل الأمانة والخلافة:

إن من أعظم مظاهر التكريم للجنس البشري خَلْقَ الله – تعالى – للإنسان بيديه في شخص سيِّدنا آدم أبي البشر – عليه السلام – ونَفْخَه فيه من روحه؛ فهو من صنعه وتصويره، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، ليكون خليفة له في هذا الكون الفسيح الذي أبدعه لعبادته وتوحيده، ودليل ذلك في القرآن، وهو كتاب الله المسطور: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص: 71، 72].

قال ابن كثير – رحمه الله – ما مختصره:

"إن الله – سبحانه – أعلَمَ الملائكة قبل خلقِ آدم – عليه السلام – بأنه سيخلُقُ بشرًا من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته، فليسجدوا له إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وامتثالاً لأمر الله – عز وجل"؛ اهـ.

ولا يقلُّ عظمةً وتكريمًا للإنسان اختيار الله له لحملِ الأمانة لهذا الكون الواسع المترامي الأطراف، وهو كتاب الله المنظور، بما فيه من نجوم ونيازك وأجرام وكواكب وسموات، التي هي من صنع الله الإله الحق الواحد الأحد.

* كرمه إرسال الرسل والأنبياء:

وهذه نعمة من نعم الله على الإنسان ومظهر من مظاهر تكريمه وتفضيله، لقد أرسل الله له الرسل على فترة من الزمن مبشرين ومنذرين وحملوا لهم شريعة الله وقوانينه التي ينبغي أن يلتزموا بها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهذه رحمة من الله بعباده، فالإنسان برغم ملكته العقلية لا يستطيع أن يتوصّل بمفرده لمعرفة الغيبيات والحقائق التي فوق قدراته العقلية، ولا يمكنه أن يضع شرائع وقوانين مضبوطة تنظم العلاقات والسلوك والمعاملات التي تحفظ حقوق الأفراد والجماعات بلا مظلم، فالقوانين الوضعية هي اجتهادات بشرية قد يصيب فيها واضعها أو يخطئ، أو قد تضعها جهة تريد المصلحة لنفسها أو عشيرتها، أما قوانين الرسالات السماوية فهي رحمة للناس كافّة، تعصمهم جميعا من الخطأ وتبيّن لهم الأحكام الصائبة وتساوي بينهم، فلا يفضل أحدهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما أن الرسالات السماوية حجة على الإنسان أمام الله، فلا يستطيع إنكار ما جاء به الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: 164)، والقرآن الكريم الذي جاء به خير ولد آدم عليه الصلاة والسلام جاء بلسان عربي مبين، وهي لغة القوم الذين خاطبهم الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (سورة طه: 110)، وهو عليه الصلاة والسلام من صميم القوم وأشرفهم، يعرفون نسبه وأخلاقه وسيرته، وقد ذكر الله فضل الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام على قومه، فقال عزّ وجلّ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سورة آل عمران: 164).

*  كرَّم الله النفس البشرية بأن جعل لها الحق في الحياة وحرَّم إهلاكها، وقد ذم الله في قرآنه وَأْدَ البنات قديمًا في الجاهلية قبل البعثة، وهو دفنهنَّ أحياءً خوفًا من العار أو الفقر.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58، 59].

ولأن الحياة منحةٌ إلهيةٌ؛ فقد حرم الله في الإسلام قتل النفس البشرية حتى وهي جنين في بطن الأم بدون سبب شرعي يسوِّغ ذلك، فحرم على النساء الإجهاض بعد نفخ الروح؛ فالجنين بعد نفخ الروح فيه، لا يجوز إجهاضه، بلا خلاف بين علمائنا؛ لأنه قتلُ نفس بغير حق، أما قبل ذلك، ففيه خلاف، ولسنا بصدد بيانه في موضعنا هذا.

والأصل في حكم الإجهاض: الحظر والمنع؛ والإسلام اعتبر النفس البشرية لها حرمتها، وجعلها إحدى الضرورات أو الكليات الخمس، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151].

• والنبي المبعوث رحمة للعالمين –صلى الله عليه وسلم- ضرب القدوة في حفظ النفس البشرية، وحرمة قتلها بغير حق، فلم يُقِمِ الحد على الغامدية التي جاءت معترفة بالزنا، فقالت يا رسول الله: إني قد زنيت فطهرني، وإنه رَدَّها، فلما كان الغدُ، قالت: يا رسول الله، لِمَ تَرُدُّني؟ لعلك أن تردَّني كما رَدَدْتَ ماعزًا، فوالله إني لحبلى! قال: ((إما لا، فاذهبي حتى تلدي))، فلما ولدت، أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه))، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحُفِرَ لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبيُّ الله –صلى الله عليه وسلم- سبَّه إياها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له))، ثم أمر بها فصلى عليها ودُفِنَتْ([3])

لقد أبى النبي –صلى الله عليه وسلم-إقامة الحد عليها إلى أن وضعت حملها، ثم أرضعته وفطمته، وبعد ذلك أقام الحد عليها، ودفع الصبي إلى رجل من المسلمين، فهذا دليل على حرمة النفس في هذا الدين الذي يسمو بها ويكرمها.

* حرَّم على الإنسان وسائل إهلاك النفس وقتلِها؛ حفظًا لها، بغير مبرر شرعي يبيح ذلك، كالإضراب عن الطعام، أو الانتحار، أو ما أشبه ذلك، وسوف نفصِّل هذا فيما يأتي من مباحث في هذه الدراسة، فما نجمله هنا، نبسطه في موضع آخر؛ منعًا للتكرار، والله المستعان.

* دعا لتزكية النفس بما يحييها ويسمو بها، ونهى عن اتباع الهوى، وطاعة الشيطان، فيضلها وتشقى، والإنسان مخير في عمل الخير أو الشر في دنياه؛ لأنها دار عمل وبلاء، وفي الآخرة يجازيه الله تعالى بعدله وكرمه ما شاء.

قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 – 10].

قال الشنقيطي – رحمه الله – ما مختصره:

فهذه النفس في تسويتها لتلقي معاني الخير والشر، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور والتقوى، أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد، والتي لا تملك سلبًا ولا إيجابًا.

الخطبة الثانية

ثانيًا: من مظاهر تكريم الإنسان ميتًا: و لقد كرم الله تعالى الإنسان و هو ميت غاية التكريم نذكر من ذلك

• • و من تكريم الإسلام للميت امرنا بتغسيله ودليل الغُسل حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((خَرَّ رجل من بعيره فوقع فمات، فقال: اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه؛ فإن الله يبعثه يوم القيامة مُلَبِّيًا)) ([4]) .

• • - تحسين كفنه : ومن تكريم الإسلام  للميت امرنا ان نحسن كفنه عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ»([5])

وأن يُجمَّر ، ويبخر، ويطّيب ، لما رواه أحمد والحاكم وصححه عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ، فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثًا».([6])

• •  ومن تكريم الميت الصلاة عليه : ودليل الصلاة عليه وتشييعه حديث ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى على جنازة، فله قيراط، ومن شهد دفنها، فله قيراطان))، قال: فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القيراط، فقال: ((مثل أُحُدٍ)) ([7]) .

• •  ودليل الدعاء حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: ((استغفروا لأخيكم وسَلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)).

• • حثَّ على احترام الميت، وعدم احتقاره وأذيته بالقول أو الفعل، مهما كان دينه؛ لحرمة النفس البشرية عمومًا، وكرامتها عند الله تعالى، وهو الذي يحاسبها إن شاء غفر لها وأدخلها جنته، وإن شاء عذبها وأدخلها ناره، وأدلة ذلك ما يلي:

• دليل احترام الميت كنفس بشرية خلقها الله -تعالى-: حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كان ابن حنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمر عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض؛ أي: من أهل الذِّمَّة؟ فقالا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: ((أليست نفسًا؟))([8]) .

• وفي رواية عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ مرت بنا جنازة، فقام لها، فلما ذهبنا لنحمل، إذا هي جنازة يهودي، فقلنا: يا رسول الله، إنما هي جنازة يهودي؟ فقال: ((إن الموت فزع، فإذا رأيتم جنازة فقوموا)) ([9])

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث ما مختصره: قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه، إشارة إلى استعظامه، ومقصود الحديث ألا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت؛ لما يُشْعِرُ ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثم استوى فيه كون الميت مسلمًا أو غير مسلم.

وأضاف - رحمه الله -: وعن ابن عباس مثله عند البزار قال: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يُظْهِر منه عدم الاحتفال والمبالاة اهـ. ([10]) .

• ودليل عدم احتقاره وأذيته، وسرقة أعضائه، أو نبش قبره، إلا لضرورة شرعية أو ما أشبه هذا: حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كسر عظم الميت ككسره حيًّا)) ([11]) .

قال العلامة ابن العثيمين - رحمه الله -: واعلم أن كسر عظم الميت ككسره حيًّا، كما جاء ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه شيء، ولا أن يُكسر من أعضائه شيء؛ لأنه أمانة، وسوف يُبعَث بكامله يوم القيَامة، وإذا كان كذلك، فلا يجوز أن تأخذ منه شيئًا.

ولهذا نص فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه، ولو أوصى به؛ وذلك لأن الميت محترم، كما أن الحي محترم، فإذا أخذنا من الميت عضوًا، أو كسرنا منه عظمًا، كان ذلك جناية عليه، وكان اعتداء عليه، وكنا آثمين بذلك اهـ. ([12]) .

• •  كرَّم الإسلام النفس البشرية، فحرم التمثيل بجسد صاحبها ميتًا، ودليل ذلك حديث عبدالله بن يزيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن النهبة والمُثْلة.

وقال ابن تيمية: فأما التمثيل في القتل، فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين - رضي الله عنهما -: ما خطَبَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة إلا أمَرَنا بالصدقة، ونهانا عن المُثْلة، حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنَّا لا نُمَثِّل بهم بعد القتل، ولا نجْدَع آذانهم وأنوفهم، ولا نَبْقُر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثلما فعلوا، والترك أفضل، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 126، 127]، قيل: إنها نزلت لما مثَّل المشركون بحمزةَ وغيرِه من شهداء أُحُد - رضي الله عنهم - فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لئن أظفرني الله بهم، لَأُمَثِّلن بضعْفَيْ ما مثَّلُوا بنا))، فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة. اهـ ([13]) .

 

 



([1]) -

([2]) -رواه البخاري ومسلم، وأحمد في مسنده (3/34) ونصه ( ليكرم الله هذه الأمة).

([3]) -أخرجه مسلم برقم:3208، باب من اعترف على نفسه بالزنا

 

([4]) -خرجاه في الصحيحين: البخاري برقم:1187، باب الحنوط للميت، ومسلم: برقم: 2092،

([5]) -صحيح ابن حبان - محققا (7/ 306) أخرجه أحمد "3/329" و"349" و"372"

([6]) -مسند أحمد ط الرسالة (22/ 411) وأخرجه ابن أبى شيبة 3/265، وأبو يعلى (2300) ، وابن حبان (3031) ،

([7]) -خرجه مسلم برقم:1575، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعهT

([8]) -أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم:1229، باب من قام لجنازة يهودي، ومسلم برقم: 1596

([9]) -أخرجه البخاري حديث رقم:1228

([10]) -شرح الحديث رقم:1228 لابن حجر في فتح الباري (4:366).

([11]) -صحيح الأحكام (233) ، والإرواء (763) للألباني

([12]) -شرح رياض الصالحين؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين (1301)

([13]) -مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (28:314).


تكريم الدين للإنسان حيا و ميتا.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf