في ظلال خطبة ا لوداع العُقوباتُ العَشْر لآكلِ الرِّبا.pdf
في ظلال خطبة الوداع العُقوباتُ العَشْر لآكلِ
الرِّبا
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي أباحَ لنا
من المكاسبِ أَحَلَّها وأزكاها وأقوَمَها بمصالح العِبادِ وأولاها، وحرَّمَ علينا كُلَّ
كَسْبٍ مَبنِيٍّ على ظُلْمِ النُّفوسِ وَهَوَاها، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده
لا شريك له خَلَقَ الخليقةَ وبَرَاها، وبيَّنَ لها طُرُقَ رُشْدِها وهُدَاها، وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((يأتي على الناس زمانٌ يأكلون فيه الربا))، قال: قيل
له: الناس كلهم؟ قال: ((من لم يأكله منهم، ناله مِن غباره))
. وبعدُ: أحبتي في الله في
مثل هذا الموسم موسم الحج وفي حجة الوداع قام خير البرية صلوات ربي وسلامه عليه ومن
أوتي جوامع الكلم على صعيد عرفة الطاهر يخطب في جموع المسلمين معه ويضع لهم وللأمة
من بعدهم دستور حياتهم ؛ وحيث أنه أوتي جوامع الكلم فيصعب على عبد ضعيف مثلي أن يعرض
لتلك الخطبة الجامعة في مثل هذا الموقف ولكن لعلي أقف في كل عام وقفة مع تلك الكلمات
العظيمة ، وأول كلمات أقف معها هي قولهكما في حديث سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول
الله r
في حجة الوداع يقول صلى الله عليه وسلم :((وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ
وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ
مَوْضُوعٌ كُلُّهُ))، ([1])
نعم إنه تحريم لتلك الآفة
العظيمة التي طالما دمرت دول وأفقرتها وحولتها من حال الغنى لحال الفقر ، تلك الآفة
التي تمثل أبشع أنواع الاستغلال من الغني للفقير،
فيا أيها الناسُ اتقوا الله
تعالى، واحذروا أسبابَ سَخَطِه وعقابه، واحذروا الرِّبا فإنه من أسبابِ لعنةِ الله
ومَقْتِه، ومن كبائرِ الإثمِ التي رتَّبَ الله عليها عُقوباتٍ في الدنيا والآخرة، فمن
ذلك:
أولا:
أن آكلَ الرِّبا مُحاربٌ لله تعالى:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]،
قال ابنُ عَبَّاسٍ: (يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلاحَكَ لِلْحَرْبِ)
رواه الطبري.
جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه
الله فقال: "يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلًا سكرانًا يتعاقر (يشرب الخمر، لعب
الخمر برأسه) يريد أن يأخذ القمر (الذي يشرب الخمر يذهب عقله يصبح مثل المجنون أضحوكة
للناس، شرب الخمر يريد أن يقفز إلى الأعلى ليأخذ القمر) فقلت - لما رأيت المنظر وتأثرت
به - فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر (يقول الرجل: امرأتي
طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، يعتقد الرجل أن أشد ما يدخل جوف ابن آدم
هو الخمر)، فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظُر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له:
ارجع حتى أنظر في مسألتك (مسألة عظيمة تحتاج إلى تفكير)، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك
طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنة رسوله، فلم أرَ شيئًا أشد من الربا؛ لأن الله أذن فيه
بالحرب"؛ يعني: لم يأذن الله لشيء يدخل جوف الإنسان محرَّم بالحرب إلا بالربا.
ثانيا:
أن آكلَ الرِّبا ملعونٌ: ومن عقوبتها اللعن أتدرون ما معنى اللعن إنه الطرد
من رحمة الله جل جلاله و أتدرون من الذي
لعنه إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: («لَعَنَ
رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ،
وَشَاهِدَيْهِ»، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ») ([2])رواه مسلم.
ثالثا:
أن آكلَ الرِّبا مُتشبِّهٌ باليهود: و هل
هناك شيء أقبح من أن يتصف المرء بصفة من صفات من غضب الله عليهم و لعنهم و جعل
منهم القردة و الخنازير قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
﴾ [النساء: 160، 161].
فالربا كان محرمًّا في الأمم
السابقة، وكان من أسباب عقوبة الله تعالى لليهود، ورغم ورود هذا الوعيد الشديد وغيره
في حق من يتعامل بالربا، فإن كثيرًا من المسلمين ما زالوا يرتكبون هذه الجريمة غير
مبالين بخطورة ما يقدمون عليه، كل ذلك بسبب الحرص على حطام الدنيا الفاني، وطمعًا في
المال الذي سيُسأل عنه كل واحد منا: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟
رابعا:
أن آكلَ الرِّبا مُتشبِّهٌ بأهل الجاهلية: و تلك
مذنمة أخرى ان اكل الربا فيه صفة من صفات
أهل الجاهلية عبد الأوثان قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا
رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) رواه مسلم.
خامسا:
أن آكلَ الرِّبا يسبح في نهرٍ من دمٍ في البرزخ حتى تقوم الساعة:
إن الذين يأكلون الربا هم
أناس يمتصون دماء الفقراء و المحتاجين لا يرحمونهم ولا يحسنون اليهم عن سمرة قال صلى الله
عليه وسلم: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ
مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ
قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ
الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ
فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي
فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ
فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا) ([3]).رواه البخاري.
سادسا:
أن آكلَ الرِّبا يُبعثُ يوم القيامة مجنوناً يُخنق: قال تعالى ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].
“معناه ينتفخ بطنه يوم القيامة، بحيث لا تحمله قدماه، وكلما
رام القيام يسقط فيكون بمنزلة الذي أصابه مس من الشيطان، فيصير كالمصروع الذي لا يقدر
على أن يقوم”.
سابعا:
أن مالَ آكلِ الرِّبا ممحوقٌ: قال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276] وعن
ابن مسعود t
عن النبي r
أنه قال: ((الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل))([4]). رواه الإمام أحمد
وصححه الذهبي
وعن ابن مسعود t
عن النبي r
أنه قال: ((ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلَّة))([5]).وقال ابن هبيرة: (وكذلك الربا فإن صاحبه يَتخيَّل أن ماله
يزداد والله من ورائه يَمحقه) انتهى.
أقول قولي هذا واستغفر
الله لي ولكم
الخطبة الثانية
و بعد:
.......................
ثامنا:
أن الربِّا من المهلكات: حذّرنا النبي
صلى الله عليه وسلّم من المهلكات التي توصل العبد إلى نار جهنم وتُخلّده فيها، قال
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: («اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ،
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»)
رواه البخاري ومسلم.
تاسعا:
أن الرِّبا أعظَمُ من الزِّنا: -
وعن عبد الله بن مسعود t
عن النبي r
قال: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أُمَّهُ، وإنَّ أربى
الربا عرض الرجل المسلم))([6]).
- ورُوِيَ عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أنه
قال: قال رسول الله r:
((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية))([7]). قال الشوكاني:
(يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْصِيَةَ الرِّبَا مِنْ أَشَدِّ الْمَعَاصِي؛ لأَنَّ الْمَعْصِيَةَ
الَّتِي تَعْدِلُ مَعْصِيَةَ الزِّنَا الَّتِي هِيَ في غَايَةِ الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ
بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ أَشَدُّ مِنْهَا، لا شَكَّ أَنَّهَا قَدْ
تَجَاوَزَتْ الْحَدَّ في الْقُبْحِ) انتهى.
وروى أحمد بإسناد جيد عن كعب
الأحبار قال: "لأن أزني ثلاثا وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله
أني أكلته حين أكلته ربا».
عاشرا:
أن ظُهورَ الرِّبا من أسباب حلول العذاب: - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله r أن
تُشْتَرى الثمرة حتى تُطْعَم، وقال: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا
بأنفسهم عذاب الله))([8]).
إن من العذاب الذي نلمسه في
هذه الأيام محق البركة وحرمان التوفيق وفقدان السعادة وكثرة البلايا وفساد الاقتصاد
وخراب البيوت، وما هذه الهزائم والخسائر ، وهذه البراكين والزلازل ، وهذا الهرج والمرج
، وكثرة الحوادث والأمراض ، إلا بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره ألا فلنتق
الله عباد الله، وليحرص كل واحد منا على تعلم أحكام دينه، وألا يدخل في معاملة تجارية
أو بنكية إلا بعد التأكد من سلامتها وبعدها عن الربا، وإذا جهل المسلم بعض الأحكام
أو شك في تعاملات المصارف والبنوك فعليه بسؤال أهل العلم عن ذلك ليسلم له ماله من الشبهة
والحرام .
أيا عبداً لجمعِ المالِ عُذراً أتدري ما السبيلُ إلى الضلاله ْ؟
سبيلُكَ في اْغتصابِ المالِ غدراً فبئس المالُ ، قد أشقى رِجالَهْ
فكُن حَذِراً إذا جَمَّعتَ مالاً فإن حرامَهُ يُفني حلالَهْ
الحادي
عشر: والربا ذنب لا يغفر:
ثبت عن عوف بن مالك رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والذنوب التي لا تغفر؛ الغلول، فمن
غل شيئا أتي به يوم القيامة، وآكل الربا، فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط»
ثم قرأ: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}
([9]).
([1]) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في وضع الربا،
برقم 3334، وقال الألباني في صحيح أبي داود، برقم 2852: ((صحيح)).
([4]) أحمد في المسند، 1/395، 424، برقم 3754، و4026،
والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/37، وصحح إسناده أحمد شاكر في المسند، برقم 3754،
وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1863: ((صحيح)).
([5]) سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب التغليظ في
الربا، برقم 2279، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 5/120، وفي صحيح ابن
ماجه، طبعة مكتبة المعارف، 2/ 241.
([6])
أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/37، وقال: ((حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))،
ووافقه الذهبي، وقال شعيب الأرنؤوط: ((صححه الحافظ العراقي))، انظر: حاشية: 8/55
من شرح السنة للبغوي، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، وأخرج نصفه الأول ابن
ماجه عن أبي هريرة، برقم 2274، وصححه العلامة الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/27،
وانظر: كلام العلامة ابن باز في هذا الكتاب، ص 77، حاشية رقم (1).
([7]) أخرجه أحمد، 5/225، برقم 22303، قال الشيخ محمد
ناصر الدين الألباني: ((وهذا سند صحيح على شرط الشيخين))، انظر: سلسلة الأحاديث
الصحيحة، 2/29، برقم 1033، وقال شعيب في حاشية شرح السنة للبغوي: ((صحيح
الإسناد))، 2/55، وهذا إسناد أحمد، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير – يعني ابن
حازم – عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال
رسول الله... الحديث.
([8])
أخرجه الطبراني، 1/178، برقم 460، والحاكم، 2/37، برقم 2261، وقال: ((صحيح الإسناد))،
والبيهقي في شعب الإيمان، 4/363، برقم 5416، وحسّنه الشيخ
الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1859.
[9] - أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"
(18/ 60/ 100) ، والخطيب في "التاريخ " (8/78 1- 79
تعليقات
إرسال تعليق