فيص العزيز الغفار في بيان حقوق الجار.pdf

فيض العزيز الغفار في بيان حقوق الجار

للشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أعطى الأمان لمن شكر

سبحانه سبحانه رب عظيم قد على فوق الخلاق وقتدر

سبحانه سبحانه عنت الوجوه لجاهه واستسلمت فطر الحياة لأمره لما أمر

فأتم فيض نعيمه للمؤمنين العاملين لدينهم جنات عدن عزها نور الجلال أفاءه أمر الذي في كل أمر قد أمر

وأضاف من مدد الخلود ما غاب عن وعي المسامع والبصر

من كل فيض ناعم يسمو على كل الفكر

و يفوق كل تصور عرفته أذهان البشر

واشهد أن لا اله إلا الله واحد أحد فرد صمد لا شريك له في ملكه ولا سند

سبحانه سبحانه جعل الحياة مطية مطواعة للمؤمنين المحسنين لأنهم قد وحدوا الله العظيم المقتدر

ومشوا على درب الهدي لما بدى في المبتدى نور الذي أحيا الفطر

ونشهد أنه رسول الله من جاء فخرا للحياة يؤمها نحو العلا حتى علت رغم الحفر

رغم الصعاب تقدمة تمحو الظلام وتنتصر

بالعلم ترسم للحياة سبيلها من أجل إسعاد البشر

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران/102}

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) [النساء/1][      

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)  [الأحزاب/69-71][

أما بعد

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد –صلى الله عليه وسلم-  وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.:.............................

حديثنا إخوة الإسلام عن بيان حقوق الجار كما جاء في كتاب العزيز الغفار و النبي المختار صلى عليه وسلم فأعيروني القلوب و الأسماع أيها الأحباب

أولا: إتحاف الأخيار بتعريف الجار:

الجار لغة: أخي المسلم أختي المسلمة قبل أن نتكلم عن حقوق الجار و الآداب التي أمر بها العزيز الغفار و النبي المختار لابد أن نتعرف على مدلول كلمة الجار و ما تحمله من معاني إن دلت فإنما تدل على عظمة و شمولية اللغة العربية التي هي لغة القران و هي كذلك لغة أهل الجنان .

قال الرّاغب: الجار من يقرب مسكنه منك،

وهو من الأسماء المتضايفة؛ فإنّ الجار لا يكون جارا لغيره إلّا وذلك الغير جار له كالأخ والصّديق، ولمّا استعظم حقّ الجار عقلا وشرعا عبّر عن كلّ من يعظم حقّه أو يستعظم حقّ غيره بالجار، قال تعالى:{ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى (النساء/ 36) }وقد تصوّر من الجار معنى القرب فقيل لمن يقرب من غيره جاره وجاوره، وتجاور (معه) قال تعالى: {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (الأحزاب/ 60)} وباعتبار القرب قيل: جار عن الطّريق (أي لم يلتزمه وإنّما انحرف قريبا منه) ثمّ جعل ذلك أصلا في العدول عن كلّ حقّ فبني منه الجور، قال تعالى: وَمِنْها جائِرٌ (النحل/ 9) أي عادل عن المحجّة. وجمع الجار (جيران)، و(جاوره مجاورة، وجوارا) من باب قاتل: والاسم (الجوار) بالضّمّ: إذا لاصقه في السّكن، وحكى ثعلب عن ابن الأعرابيّ: الجار الّذي يجاورك بيت بيت، و(الجار):

الجار هو: وهو مَنْ جاورك جوارًا شرعيًا سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوَّا ً، محسناً أو مسيئاً، نافعًا أو ضارًا، قريبًا أو أجنبيًا، بلديَّاً أو غريبًا.

وله مراتب بعضها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه، وقرابته، ودينه، وتقواه، ونحو ذلك، فَيُعْطى بحسب حاله وما يستحق

أنواع الجيران: الجيران ليسوا في مرتبة واحدة بل بعضهم فوق بعض قال الإمام أحمد: الجيران ثلاثة: جار له حق، وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار. وجار له حقان: وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار، وحق الإسلام. وجار له ثلاثة حقوق: وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة([1]).

ثانيا: وصية العزيز الغفار والنبي المختار بالجار:

اعلم زادك الله علما: أن الله تعالى أوصى بالجار، وأعلى من قدره؛ فللجار في الإسلام حرمة مصونة، وحقوق كثيرة لم تعرفها قوانين الأخلاق، ولا شرائع البشر.

بل إن تلك القوانين والشرائع الوضعية لتتنكر للجار، وتستمرئ العبث بحرمته؛ إذ غالبًا ما يكون العبث بحق الجار أسهل تناولاً، وأقل كلفة، وأسنح فرصة.

ولقد بلغ من عِظَم حق الجار في الإسلام أن قرنَ الله حق الجار بعبادته وتوحيده_تبارك وتعالى_وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام.

قال جل جلاله في آية الحقوق العشرة: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ] (النساء: 36).

يقول القرطبي - رحمه الله - قوله تعالى: (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه. ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ) أي القريب. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي الغريب، قاله ابن عباس، وكذلك هو في اللغة. ومنه فلان أجنبي، وكذلك الجنابة البعد. وأنشد أهل اللغة:

فلا تحرمني نائلا عن جنابة*** فإني امرؤ وسط القباب غريب

وقال الأعشى:

أتيت حريثا زائرا عن جنابة *** فكان حريث عن عطائي جامدا

قلت: وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح. والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه(تفسير القرطبي)

فقوله_تعالى_: [وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى]: هو الذي بينك وبينه قرابة، وقيل: هو الذي قَرُبَ جوارُه، وقيل: المسلم، وقيل: الزوجة.

وقوله: [وَالْجَارِ الْجُنُبِ]: قيل: هو الذي يعد في العرف جارًا وبينك وبين منزله فسحة.

وقيل: هو الذي ليس بينك وبينه قرابة، وقيل: الزوجة: وقيل: غير المسلم

أما السنة النبوية فقد استفاضت نصوصها في بيان رعاية حقوق الجار، والوصاية به، وصيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خلَّته، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن ما يريبه ويسيء إليه.

ومن أجلى تلك النصوص وأعظمها ما جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَيُوَرِّثُهُ "([2])

أي ظننت أنه سيبلغني عن الله الأمرُ بتوريث الجارِ الجارَ.

وهذه كلمة جامعة بالغة؛ فإن الوصاية بالجار تشمل كف الشر عنه وإسداء الخير إليه، وقوله ": (حتى ظننت أنه سيورِّثه) يدل على أن الوصاية بالجار كانت على جانب عظيم من التأكد، والحث على رعاية حقوقه.

ثالثا: في كمال الإيمان عمن آذى الجيران:

و مما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في بيان مكانة الجار  و أن من آذى جاره و نال الجار منه مكروها فإن ذلك المرء غير كمال الإيمان عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ ثَلَاثًا "، قَالُوا: وَمَنَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ، قَالَ: " شَرُّهِ " ([3])

رابعا :الحجب و الحرمان من دخول الجنان لمن آذى الجيران:

و اعلم علمني الله و إياك : أن النبي -صلى الله عليه و سلم  اخبرنا أن الله تعالى يجب من آذى جاره عن جنته عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَالْمُسْلِمُ مِنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»  ([4])

خامسا: النهي عن أذى الجار

نهى النبي - صلى الله عليه و سلم - عن أذى الجار  و عدَّ من أذى الجار من أسباب نقصان الإيمان عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصمُتْ " ([5])

يقول بدر الدين العيني - رحمه الله - قوله فلا يؤذ جاره الإيذاء معصية لا يلزم منها نفي الإيمان والمراد منه نفي كمال الإيمان وأما تخصيص الإيمان بالله واليوم الآخر من بين سائر ما يجب به الإيمان فللإشارة إلى المبدأ والمعاد يعني إذا آمن بالله الذي خلقه وأنه يجازيه يوم القيامة بالخير والشر لا يؤذ جاره قوله فليكرم ضيفه والأمر بالإكرام يختلف بحسب المقامات وربما يكون فرض عين أو فرض كفاية وأقله أنه من باب مكارم الأخلاق ولا شك أن الضيافة من سنن المرسلين وقال الداودي يزيد في إكرامه على ما كان يفعل في عياله([6])

سادسا: جواز لعن من آذى جاره:

واعلم زادك الله : أن النبي – صلى الله عليه و سلم نهى في كثير من المواطن عن أن يلعن المسلم أخاه المسلم  إلا في موطن محدده منها أذى الجار فذلك مدعاة إلى اللعن من المسلمين و المسلمات و قد اقر النبي – صلى الله عليه و سلم – المسلمين على لعنهم من آذى جار عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ فَطَرَحَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ قَالَ: «وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟» قَالَ: يَلْعَنُونِي قَالَ: «قَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ» قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعُودُ فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ» ([7])

حقوق الجار

أولا: حماية الجار: اعلم زادك الله علما: أن من حقوق الجار على جاره حمايته والذود عن حريمه وعياله وماله عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "المؤمِنُ مرآةُ المؤمِنِ، والمؤمِنُ أخو المؤمن: يكُفُّ عليه ضَيْعَتَه، ويَحُوطُه مِن وَرائه" ([8])

وقوله: (والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته) أي: يكون عوناً له على المحافظة على كل ما من شأنه المحافظة عليه. وقوله: (ويحوطه من ورائه) المقصود من حياطته التي جاءت في الترجمة بعد كلمة النصيحة: أنه ينصح له في حضوره وفي غيابه، وإذا كان وراءه فإنه يذب عنه ويكف عن عرضه ولا يلحقه ضرر منه، وإذا حصل من غيره ضرر له فإنه يعمل على نصح ذلك الذي حصل منه تلك الغيبة أو النميمة أو غير ذلك من الأشياء، فيدافع عنه سواء كان ذلك في حضوره أو في غيابه

الإمام أبي حنيفة – رحمه الله و جاره :من المشهور عن مروءته، ووفائه ورعايته حق الجوار، ما روى أنه كان له جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل معه لحماً فطبخه أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غنى بصوت، وهو يقول:

أضاعوني وأي فتىً أضاعُوا *** ليَوم كريهةٍ وسدَادِ ثَغْرِ

فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم.

وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس.

فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلة، واستأذن على الأمير. فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط.

ففعل، فلم يزل الأمير يوسع في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟

قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، ويأمر الأمير بتخليته.

فقال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا. فأمر بتخليتهم أجمعين.

فركب أبو حنيفة، والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه، فقال: يا فتى، هل أضعناك؟

 فقال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار، ورعايته.

وتاب الرجل، ولم يعد إلى ما كان عليه، ببركة الإمام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُتقلبه ومثواه، ونفعنا ببركاته، وبركات علومه في الدنيا والآخرة. ([9])

ثانيا: الإحسان إلى الجار:

الإحسان كلمة جامعة لمعاني الخير و لكل أنواع البر  ، فعلى الجار أن لا يدخر جهدا في إيصال المعروف إلى جاره لأن ذلك من سمات أهل الإيمان و من شيم الرجال ،و لقد كان أهل الجاهلية أحسن حالا مع جيرانهم من بعض المسلمين في هذه الآونة التي تنكر فيها الجار  و لم يرع حقوق جاره .

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصمُتْ " ([10])

قال الزرقاني : قال القرطبي :فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته حريصا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلا على فساد اعتقاد ونفاق فيكون كافرا ولا شك أنه لا يدخل الجنة وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقا فسقا عظيما ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر فإن المعاصي بريد الكفر فيكون من الصنف الأول فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة فأمره إلى الله وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه

 حكى ابن عبد البر عن أبي حازم بن دينار قال كان أهل الجاهلية أبر منكم بالجار هذا قائلهم قال

ناري ونار الجار واحدة     وإليه قبلي ينزل القدر

ما ضر جاري إذ أجاوره       أن لا يكون لبابه ستر

أغض طرفي إذ ما جارتي        برزت حتى يواري جارتي الخدر ُ

مشكل الآثار :باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثواب على الصبر على الجار السوء

 عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ الْأَحْمَسِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْنَأُهُمُ اللَّهُ، فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ، قَالَ: مَا هُوَ؟ وَلَا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتَ: " ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْنَأُهُمْ، قَالَ: وَسَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَمَنِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ؟ قَالَ: رَجُلٌ لَقِيَ فِئَةً فَنَصَبَ نَحْرَهُ لِلْعَدُوِّ حَتَّى يُهَرَاقَ دَمُهُ أَوْ يَفْتَحَ لِأَصْحَابِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَطَالُوا السُّرَى حَتَّى أَحَبُّوا أَنْ يمْسُوا الْأَرْضَ فَتَنَحَّى رَجُلٌ فَصَلَّى حَتَّى أَيْقَظَهُمْ لِلرَّحِيلِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ جَارُ سُوءٍ فَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ، قُلْتُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ، فَمَنِ الَّذِينَ يَشْنَأُهُمْ؟ قَالَ: التَّاجِرُ الْحَلَّافُ، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ " ([11])

أقول قولي هذا واستغفر  الله لي و لكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

ثالثا: نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين :

إخوة الإسلام : و هذا من حقوق المسلمين عامة و من حقوق الجار خاصة أن يسدي إليه النصيحة في أهله و في زرعه و في ماله و في أمر دنياه و كذا أمر أخره و هذا كله يندرج تحت ذلك الحديث الجامع للنصيحة  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ» ([12])

الدين النصيحة أي عماده وقوامه النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين بولغ فيه حتى جعل الدين كله إياها وما ألطف قول المقرى في قصيدة التزام النون في كل كلمة منها

نزه لسانك عن نفاق منافق        وانزع فإن الدين نصح المؤمن

وتجنب المن المنكد للندى     وأعن بنيلك من أعانك وامنن

رابعا: وإذا استقرضك فأقرضه،

واعلم علمني الله و إياك: أن دين الإسلام جاء ليربط بين اتباعه برباط المحبة و الألفة و جعلهم كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» ([13])

 عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً» ، ([14])

خامسا:إذا افتقر فعد عليه:

معاشر الموحدين :ومن  الحقوق التي ينبغي على المسلم أن يقوم بها نحو أخيه المسلم أنه إذا افتقر و وقع في أزمة مالية أن يعود عليه من ماله سواء من الزكاة المفروضة عليه أو من الصدقة عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيُّهُمَا أُهْدِي، قَالَ: " إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا " ([15])

يقول بدر الدين العيني – رحمه الله - وفيه افتقاد الجيران بإرسال شيء إليهم ولا سيما إذا كانوا فقراء وفيهم أغنياء وقد قال لا يؤمن أحدكم ببيت شبعان وجاره طاو وقد أوصى الله تعالى بالجار فقال والجار ذي القربى والجار الجنب ( النساء 36 ) ([16])

سادسا: عيادته إذا مرض:

واعلم زادك الله علما: أن من حقوق الجار على جاره أن يعوده إذا مرض فهي مما يخفف على المريض ويستشعر  من خلالها بدفء الأخوة و برابطة المحبة، و هي من جملة الحقوق التي شرعها لنبي على المسلم لأخيه المسلم

على المسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ ) ([17])

سابعا: تعزيته عند المصيبة:

ومن الحقوق التي هي من حقوق الإخوة الإسلامية  أنه إذا أصابته مصيبة من فقد حبيب أو قريب فعلى الجار أن يعزيه و أن يكون بجواره، و بما أن بعض من المسلمين يجهلون أحكام التعزية فبين هنا بعض الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها

ثامنا: اذا مات فاتبع جنازته

اعلم علمني الله و إياك :أن من حقوق الجار على جاره أنه إذا مات أن يتبعه و يصلي عليه و هو من حقوق المسلم على المسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ "، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطِسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ " ([18])

تشييع الجنازة حق للميت على المسلم، فتؤدي الحق الذي عليك وتأخذ قيراطاً مثل أحد! هذا والله فضل عظيم.

فهذه حقوق للمسلم على المسلم من أول ما يلاقيه إلى أن يدفنه، وهي حقوق إسلامية عامة، بخلاف حقوق الجوار، وبر الوالدين، وقضاء الدين الذي عليه، فهذه حقوق خاصة، ليس سببها مجرد أخوة الإسلام.

تاسعا: صنع الطعام لأهل الميت:

و علموا عباد الله :أنه يسن لجيران أهل الميت أن يصنعوا طعاما لهم،  عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ": ([19])

روائع اللبيان من قصص الجيران:

القصة الأولى :الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق وكان ابن المقفع بجنب داره دار وكان يستامها وصاحبها يمتنع من بيعها، فاتفق أن ركب صاحب الدار دين واحتاج إلى بيعها فعرضت عليه فقال: ما قمت إذاً بحرمة الجوار إن رغبت في ابتياعها بعد أن باعها معدماً، وحمل إليه ثمن الدار وقال: بق دارك عليك ورد هذا على دينك. ([20])

القصة الثانية: وهل يباع الجوار؟

وساوموا جاراً لفيروز على داره بثمن فقال: هذا ثمن الدار فأين ثمن الجوار؟

قالوا: وهل يباع الجوار؟ قال: نعم لا أبيعه إلا باضعافه دراهم، فبلغ فيروز فأرسل إليه ثمن الدار.)

* قال رجل لعبد الله بن المبارك رضي الله عنه إن جارنا يشتكي من عبدي ولعله يكذب عليه قال إذا أذنب عبدك ذنبا فاحفظه عليه فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك فتكون قد أرضيت جارك وأدبت عبدك وعن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الجار كحرمة الأم.

القصة الثالثة: حق الجوار حتى مع النمل

كان عدي بن حاتم الطائي صحابيا روى عن النبي ستة وستين حديثا وكان إذا ركب فرسه تخط رجلاه بالأرض وكان يفت الخبز لمن جاوره من النمل ويقول علينا حق الجوار حكاه النووي في تهذيب الأسماء واللغات.. ([21])

القصة الرابعة: أمرني جدي-صلى الله عليه وسلم-بإكرام الجار

* وقال ابن عباس الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر ورأيت عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن جاره اليهودي انخرق جداره إلى منزل الحسن فصارت النجاسة تنزل في داره واليهودي لا يعلم بذلك فدخلت زوجته يوما فرأت النجاسة قد اجتمعت في دار الحسن فأخبرت زوجها بذلك فجاء اليهودي إليه معتذرا فقال أمرني جدي صلى الله عليه وسلم بإكرام الجار فأسلم اليهودي وقال الحسن البصري ليس حسن الجوار كف الأذى عن الجار بل حسن الجوار الصبر على أذى الجار وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن آذى جاره حرم الله عليه الجنة.. ([22])

القصة السابعة: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله

عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أنه كان له جار ذمي و كان قد انبثق من كنيفه إلى بيت في دار سهل بثق فكان سهل يضع كل يوم الجفنة تحت ذلك البثق فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي و يطرحه بالليل حيث لا يراه أحد فمكث رحمه الله على هذه الحال زمانا طويلا إلى أن حضرت سهلا الوفاة فاستدعى جاره المجوسي و قال له : ادخل ذلك البيت و انظر ما فيه فدخل فرأى ذلك البثق و القذر يسقط منه في الجفنة فقال ما هذا الذي أرى ؟

قال سهل : هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت و أنا أتلقاه بالنهار و ألقيه بالليل و لولا أنه حضرني أجلي و أنا أخاف أن لا تتسع أخلاق غيري لذلك و إلا لم أخبرك فافعل ما ترى فقال المجوسي : أيها الشيخ أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل و أنا مقيم على كفري ؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ثم مات سهل رحمه الله([23])

الدعاء...................

 



[1] - فتح الباري 13 / 48 - 49 ، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2 / 124)

[2] - البخاري (6014)، ومسلم (2624)،

[3] - أخرجه أحمد ح 7865 و مسلم ح 46 الطبراني في الكبير ح  8266 

[4] - أخرجه أحمد  ح 8842  ومسلم ح 46

[5] - أخرجه البخاري ح 6136

[6] - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (32 / 201)

[7] - الآداب الشرعية 2/18. المعجم الكبير:ج22/ص134 ح356

[8] - أخرجه أبو داود (4/280 ، رقم 4918) ، و قال الألباني ( حسن ) انظر حديث رقم : 6656 في صحيح الجامع .

[9] - الطبقات السنية في تراجم الحنفية - (1 / 34) - أخبار أبي حنيفة - (1 / 51)الأغاني - (1 / 399) تاريخ بغداد - (13 / 363)

[10] - أخرجه أحمد ح 16417، و مسلم ح 47 ،الدارمي ح 2036

[11] - أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ح 19701-و الطحاوي في مشكل الآثار ح  2331،و قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3074 في صحيح الجامع

[12] - أخرجه أحمد (4/102 ، رقم 16982) ، ومسلم (1/74 ، رقم 55)

[13] - أخرجه مسلم (4/2000، رقم 2586).

[14] - ابن ماجه [ 2430 ] باب القرض ، تعليق الألباني "حسن".

[15] - أخرجه أحمد ح – 26068، و البخاري ح 2259

[16] - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (18 / 250)

[17] - أخرجه أحمد (2/372، رقم 8832)، والبخاري في الأدب المفرد (1/319، رقم 925)، ومسلم (4/1705، رقم 2162).

[18] - أخرجه أحمد (2/372، رقم 8832)، والبخاري في الأدب المفرد (1/319، رقم 925)،

[19] --  أخرجه الحميدي (537) وأحمد (1/205) (1751) وأبو داود (3132) قال : حدثنا مسدد. وابن ماجة (1610)

[20] - محاضرات الأدباء - (2 / 91)

[21] - نزهة المجالس ومنتخب النفائس - (1 / 209)

[22] - نزهة المجالس ومنتخب النفائس - (1 / 209)

[23] - الكبائر - الذهبي - (1 / 207)


فيص العزيز الغفار في بيان حقوق الجار.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf