الدرس الثاني عشر عمله صلى الله عليه وسلم في رعي الغنم.pdf
الدرس الثاني عشر
عمله صلى الله عليه وسلم في رعي الغنم
الحمد لله الذي نور بجميل هدايته قلوب أهل السعادة،
وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين فأسكن فيها وداده، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته
فأقبلت منقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمده على
ما أولى من فضل وأفاده، ونشكره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفاده.
واشهد إن لا اله إلا الله،
وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير شهادة أعدها من أكبر نعمه
وعطائه، وأعدها وسيلة إلي يوم لقاءه
تعطف بفضل منك يا مالك الورى فأنت ملاذي
سيدي ومعيني
لئن أبعدتني عن حماك خطيئتي فأنت
رجائي شافعي ويقيني
ولست أرى لي حجة أبتغي بها رضاك إن العفو منك يقيني
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا
محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أقام به منابر الإيمان ورفع عماده،
وأزال به سنان البهتان ودفع عناده
وشفع فيّ خير الخلائق طرا نبيا لم
يزل أبدا حبيبا
هو الهادي المشفع في البرايا وكان
له رحيما مستجيبا
عليه من المهيمن كل وقت صلاة
تملأ الأكوان طيبا
وعلى اله وأصحابه ومن سار على
نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
ثم أما بعد: فقد اشتد ساعد
النبي صلى الله عليه وسلم و أصبح يستطيع العمل و الاكتساب و كان أبو طالب مقلاً في
الرزق فعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر -
صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما
هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: (ما بعث الله نبياً إلا رَعى الغنم فقال: أصحابه: وأنت يا
رسول الله؟ وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط) ([1])، إن
رعي الغنم كان يتيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة،
ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع الى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق،
ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار
يتيح له لوناً من التربية النفسية
من الصبر والحلم والأناة والرأفة والرحمة والعناية بالضعيف حتى يقوى وزم قوى القوي
حتى يستمسك للضعيف ويسير بسيره، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف
من كل مالا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف
الضعيف ([2]).
وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه
- صلى الله عليه وسلم - التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات([3]) (
فكان رعي الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - دربة ومراناً له على سياسة الأمم.
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1 -الصبر: على الرعي من طلوع
الشمس إلى غروبها، نظراً لبطئ الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها الى الصبر والتحمل، وكذا
تربية البشر ([4]).
إن الراعي لايعيش في قصر منيف
ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج
الى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لايجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي
أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها([5]) .
2 -التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي
خدمة الغنم والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه
ما أصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار
يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء ويرتكز
في نفسه خلق التواضع وقد ورد
في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا
وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ
الْحَقِّ([6])،
وَغَمْطُ النَّاسِ» ([7]).
3 -الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي
الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلابد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء ولمنع
الوحوش من افتراس أغنامه ([8]).
4 -الرحمة والعطف: إن الراعي
يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أم كُسرت أو أصيبت، وتدعوا حالة مرضها
وألمها الى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها، فمن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة
بالإنسان وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان وإرشاده وإنقاذه
من النار وإسعاده في الدارين .
5 -حب
الكسب من عرق الجبين:
إن الله قادر على أن يغني محمداً
- صلى الله عليه وسلم - عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد
وعرق الجبين ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما
في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن
الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد عمله لله تعالى، ويرد شبهة الكفرة الظلمة الذين يصورون
للناس ان الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم ([9]){قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}
(سورة يونس، الآية: 78).
هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً
لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد بها الدنيا،
ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: {وَيَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي
إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو
رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (سورة هود: الآية 29).
روى البخاري عن المقدام - رضي
الله عنه - عن رسول الله قال: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده،
وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) ([10]) .
ولاشك أن الاعتماد على الكسب
الحلال تكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها ([11]) وكم
من الناس يطأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجاورونهم في أهوائهم خوفاً
على وظائفهم عندهم([12])
.
إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته
أي قيمة في الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس
وصدقاتهم، ولذا كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على
جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل
في دنياه فيعوقه ذلك من أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبالٍ بالموقع الذي قد تقع
من نفسه.
وهذا هو المعنى وإن لم يكن
قد خطر في بال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة، إذ أنه لم يكن يعلم بما
سيوكل إليه من شأن في الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له
ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول
قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة ([13]) .
إن إقبال النبي - صلى الله
عليه وسلم - على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرزق يشير الى دلائل هامة في شخصيته
المباركة منها؛ الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بها نبيه - صلى
الله عليه وسلم -. لقد كان عمّه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنّو والشفقة
كالأب الشفوق، ولكنه - صلى الله عليه وسلم – ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى
أقبل يكتسب، ويتعب نفسه لمساعدة عمه في مؤونة الإنفاق وهذا يدل على شهامة في الطبع،
وبرّ في المعاملة، وبذل للوسع([14]) ،
والدلالة الثانية تتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين
في دار الدنيا، لقد كان سهلاً على الله أن يهيئ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو
في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً
وراء الرزق.
ولكن الحكمة الربانية تقتضي
منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه
وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله،
ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله([15]) .
تعليقات
إرسال تعليق