منهج النبي العدنان في بناء الأوطان.pdf
منهج النبي العدنان صلى الله عليه وسلم في بناء الأوطان
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
أما بعد : فحياكم الله تعالى و بياكم
معاشر الموحدين حديثنا إليكم اليوم عن
منهج النبي العدنان صلى الله عليه و سلم في بناء الأوطان فأعيروني القلوب و الأسماع
منهج يقوم على البناء والتعمير
لا التخريب و التدمير :
إخوة الإيمان : لقد دعت جميع الشرائع السماوية إلي
البناء والرقي والازدهار بجميع أنواعه من بناء أخلاق وقيم وسلوكيات وإتقان في
العمل، وقد حض الإسلام علي ذلك واعتبره من قبيل الطاعة والعبادة لله في أرضه، فدعا
لبناء الفرد والمجتمع والأسرة بناء حقيقيًا وسطًا حتى تكون الثمرة المرجوة التي لا
تعود علي مجتمع بعينه بل علي البشرية كلها دون النظر إلي جنس أو دين.
ولذلك حذر ديننا الحنيف من الهدم أو التخريب أو
السعي فيهما بالفساد و الافساد
أمة الحبيب الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، جاء
القرآن الكريم ليصلح ما أفسدته الطبائع البشرية، وغيَّرته النزوات الشيطانية،
فالقرآن الكريم كتاب إصلاح، فهو مصلح لكل زمان ومكان؛ لذا نرى القرآن الكريم حارب
الفساد والمفسدين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56، 85]؛ أي: لا تخرِّبوا
الدنيا بمعاصيكم، بعد أن أصلحها الله للطاعات، وأصلحها الصالحون بها؛ فإن المعاصي
تفسد الأرض وما عليها، وتفسد الأعمالَ والأرزاق، كما أن الطاعات تصلح بها أحوال
الدنيا والآخرة؛ قال ابن عطية في شرح الآية: ((ألفاظ عامة، تتضمن كل إفساد قلَّ أو
كثُر، بعد إصلاح قلَّ أو كثُر، والقصد بالنهي هو على العموم، وتخصيص شيءٍ دون شيء
في هذا، تحكُّم إلا أن يقال على وجهة المثال))
بناء المسلم الذي يعمر ولا
يدمر ويبني ولا يهدم :
إخوة الإسلام: لقد ركز لنبي صلى الله عليه وسلم على
بناء الإنسان قبل بناء الأوطان لأننا لو بنينا الأوطان دون أن نبني المواطن الصالح
فلن يقدر قدر ذلك البنيان لأنه سيكون من طبيعته الإفساد كمثل إنسان بنى بيتا جميل
به أحدث المفروشات و المقتنيات ثم جاء بمجموعة من الفئران و اسكنها ذلك المكان من
طبيعة الفأر أنه مفسد لن يقدر قدر تلك الأقمشة و لا ذلك الأثاث سيفسده بالقرض
.........
لذا كان النبي همه الأول بناء الفرد الصالح الذي
ينهض بالبلاد ويهتم بأمر العباد أسس البناء :
أول أسس البناء: البناء
العقدي للفرد والمجتمع ذلك البناء
العقيدة
التي تربي أصحابها على مراقبة الله تعالى لا مراقبة الهيئات
العقيدة التي تربي المجتمع على أن أكرمهم لي أغناهم
ولا أفواههم وإنما اتقاهم
العقيدة التي تربي المجتمع على الوحدة والاعتصام لا
بالأشخاص ولا بالأحزاب وإنما بالله تعالى
العقيدة التي تربي المجتمع على أن الأرزاق بيد
الخلاق جل في علاه
إن أول لبِنة وضعها النبي صلى الله عليه وسلم في
بناء الشخصية المسلمة أنْ رسَّخَ العقيدة الإسلامية الصافية في نفوس أصحابه رضي
الله عنهم أجمعين، فقد ظلَّ الحبيب صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة،
يُرسِّخ ويُربِّي الفرد على عقيدة التوحيد المتمثِّلة في قول: "لا إله إلا
الله"، وبيَّنَ لهم أن فيها الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، "وكانت
عقيدة التوحيد هي العقيدة الأُمُّ التي أَنْتَجَتْ فيما بعد هذا الوازع الإيمانيَّ
في قلوب الصحابة، وما كان لعقيدة أن تصمد أمام أصنام قريش المتراصَّة حول الكعبة،
وصناديدها المنافِحين عنها بالنفس والمال والأهل، إلا عقيدةً آسرةً للقلوب
والعقول، ومهيمنة على الحياة بكل تفاصيلها، عقيدة تُرسِّخ لفكرة الربِّ الواحد
الأحد، الفرد الصَّمَد، الذي يُدير شؤون هذا الكون الفسيح وَفْق إرادة خالصة، لا
يعتريها العجز، ولا يتدخَّل فيها الشركاء؛ من صاحبة، أو ولد، كما كان يدَّعي
المبطِلون، إنْسًا وجنًّا؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]"[1].
ثانيا :بناء الشخصية العابدة
لله تعالى بمفهوم العبادة الشامل و أثرها النافع :
فالعبادة بمفهومها الواسعِ تَسَع تصرُّفاتِ الإنسان
اليوميةَ والطبيعية؛ من نوم وغذاء، ومشيٍ وكلام، وحركة وسكون، ما دامت مراقبةُ
الله مرتبطةً بها، وإذا كان الإسلامُ قد فرض على الناس عباداتٍ معيَّنةً يؤدُّونها
وتتفاوت هذه العبادات بين عباداتٍ يومية؛ كالصلاة، أو موسمية؛ كالصِّيام، والحج،
أو اجتماعية؛ كالزكاة؛ فلأنها جميعًا تؤدِّي إلى هدف العبادة الأكبر، وهو إشاعةُ
ذكر الله في الأرض وإخلاص العبادة له.
ولأن هذه العباداتِ المفروضةَ هي التي تمثِّل
الدعائم الأساسية لبناء العبادة المتكامل؛ فإن الأفضل أن نتحدَّث عن الآثار
التربوية لكل ركن على حِدَة؛ لأنَّ كل فريضة تهتم بالتركيز على جانبٍ من بناء
الإنسان والمجتمع، وإنْ كانت كلُّها في النهاية تؤدِّي إلى تكامُل هذا البناء
ومتانتِه وقوَّته.
فالصلاة: ليست حركات يقوم بها المسلم في محرابه دون
ترجمة لتلك الصلاة في حياة اليومية
الصلاة عباد الله تبني المسلم و المواطن الذي يسعى
الى الخير و الإصلاح و يبتعد عن الشر و الإفساد يقول الله تعالى إنَّ قول الله -
سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45] لم يتحقق في مجتمع
المسلمين اليوم؛ فالمُنكرات كثيرةٌ، والفواحش الظاهرة والباطنة وفُحش الجوارح والقلوب
شائعٌ، ومعاني المحبَّة والإخاء كلماتٌ تُسمع في خطب المساجد والبيانات الرسمية،
ولكنها بعيدةٌ عن الواقع.
إنَّ قِبْلتنا واحدةٌ، وقلوبُنا متفرِّقة، وأهواؤنا
متعددة، وقد كانت التربية العملية على هذه المعاني في صُوَر التآخي التي أقامها
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بين المهاجرين والأنصار، والوَحدة
الرُّوحية والسياسية التي مارَسها في واقع الحياة في ذلك المجتمع - موجودةً
راسخةً.
والزكاة - وهي فريضةٌ
اجتماعيَّةٌ - جاء بها الإسلام لتطهيرِ نفوس الأغنياءِ مِن
الشُّحِّ والبخلِ، وتطهيرِ نفوس الفقراء من الغِلِّ والحسدِ، كما قال - تعالى -: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [42]، كما شُرعتِ الزَّكاةُ أيضًا لإقامة شَعائرِ
الإسلام، كالجهادِ، وبناء المساجد، والمدارس، وغيرها؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
وأمَّا فريضةُ الحجِّ، فهي مدرسةٌ ربَّانيَّةٌ
متكاملةٌ، تُقوِّي صلةَ العبد بربِّه بما تُزكِّي من نفسِه، وتُحسِّن من أخلاقه،
وتُعوِّدُه على البذل والتَّضحية؛ قال - تعالى -: ﴿ الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [44].
والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الآخَرُ يقي
المجتمعَ من العقائدِ الفاسدة، والطِّباع المُعوجَّة، والسلوكيات المُنحرفة: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ﴾
[45].
ثالثا: بناء وحدة الصف والالتفاف
الجماعي حول البناء والتعمير
إخوة الإسلام لقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على
بناء مجتمع متماسك مترابط يسوده المحبة والإخاء والوحدة والاعتصام
إنَّ الاتحاد قوة، وهوَ البناء والنماء والحضارة،
مَنْ تمسَّك بِهِ ازداد قوة وعزًّا ورفعة، والاتحاد سبيل المجد وبناء الحضارات،
فهو يقوِّي الهمَم، ويبارك فِي الجهدِ، ويجعل المتحدين في مَأْمَن مِنْ كُلِّ
عدوٍّ ماكر أو حاقد حاسد.
قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ» (سورة آل عمران: 103). فقد أمر الأمة جميعاً بالاعتصام بحبل الله، ولم يوجه
الأمر بالاعتصام بحبل الله إلى الأفراد، وإن كان واجباً على كل فرد على حدة.
فالعصمة والاعتصام والاتحاد تعنِي القوة والمنعة والأمن والنجاة، وَحَبْل اللَّهِ
العهدُ الذِي ارتضاه لهمْ، وهوَ مَا ينظِّمُ الأخلاق والممارسات، ويوجِّهُ
شعوبَنَا لتحقيق طموحاتِ قادتِنَا وأولِي الأمر منَّا.
وقال سبحانه:[وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (آل عمران:105)
وقال سبحانه: [إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ]
(الأنعام: 159)
وقال سبحانه: [وَلا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] (الروم:32)
الواقع التطبيقي
لقد حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَ هجرتِه
إلى المدينة علَى الاتحاد، فآخَى بيْنَ المهاجرين والأنصار، فكانُوا جميعاً يداً
واحدةً وجسداً واحداً، فقَدْ طبقُوا تعاليم رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، الذِي
قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ
مَثَلُ الْجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»([1]).
ولَمْ
يكتفِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِهذه المؤاخاة بيْنَ المهاجرين والأنصار،
إنَّمَا عقد اتفاقاً معَ قاطنِي المدينة مِنْ غيْر المسلمين، حتَّى أبرم معَهُمْ
معاهدةً، وكتَبَ بذلك وثيقةً تُسَمَّى بوثيقة المدينة، تلكَ الوثيقةُ التِي جمعَتْ
كلَّ مَنْ يعيش بالمدينة مِنْ مسلمين وغيرِهِمْ، وعَلَّم النبيُّ صلى الله عليه
وسلم صحابتَه كيف يكون الاتحاد بسيرتِه ومواقفِه وجميع حياتِه، فهُوَ صلى الله
عليه وسلم الذِي يبنِي ولاَ يهدِم، ويزرع بذور التعاونِ والاتحادِ بيْنَ الناسِ، ويجمعُهُمْ
ويحذِّرُهُمْ مِنَ الفُرْقَة بقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ
وَالْفُرْقَةَ». وبقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ
ثَلاَثاً وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاَثاً، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، وَأَنْ
تَنَاصَحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ
وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ».([2])
رابعا: البناء الاقتصادي
القائم على العمل الرحمة والرأفة
و من دعائم البناء التي وضعها سيد الأصفياء صلى
الله عليه وسلم فقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم على ان يبني اقتصادا رباني يقوم
على الرحمة و الرأفة بجميع طواف المجتمع فحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل و
السعي في الأرض و عدم الركون إلى الدعة و الراحة
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم-السعي على النفس أو
لأبناء أو الآباء يعدل الجهاد في سبيل الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ
جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ
عَلَيْنَا شَابٌّ مِنَ الثَّنِيَّةِ , فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ بِأَبْصَارِنَا
قُلْنَا: لَوْ أَنَّ هَذَا الشَّابَّ جَعَلَ شَبَابَهُ وَنَشَاطَهُ وَقُوَّتِهِ
فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ , قَالَ: فَسَمِعَ مَقَالَتَنَا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: " وَمَا سَبِيلُ اللهِ إِلَّا
مَنْ قُتِلَ , مَنْ سَعَى عَلَى وَالِدَيْهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ , وَمَنْ سَعَى
عَلَى عِيَالِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ , وَمَنْ سَعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُعِفَّهَا
فَفِي سَبِيلِ اللهِ , وَمَنْ سَعَى عَلَى التَّكَاثُرِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ
الشَّيْطَانِ " ([3])
وحث سبحانه عباده على أكل الحلال فأمر المؤمنين بما
أمر به المرسلين فقال سبحانه ﴿ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51].
أحد أبرز خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي في عصر
النبي -صلى الله عليه وسلم- ، التكافل
الاقتصادي والاجتماعي. قال الله تعالى (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
يرى ذلك في تركيز النبي -صلى
الله عليه وسلم- في بداية هجرته إلى المدينة- على أهمية توزيع الدخل
والثروة من خلال الإخاء ومشاركة الأملاك والأموال بين الأنصار والمهاجرين.
وبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- عند تأسيس الدولة الإسلامية وإرساء أركانها
بالإخاء بين الأنصار والمهاجرين ليضع بذلك اللبنة الأولى للتكافل الاقتصادي
والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ، ثم بتحقيق العدالة الإسلامية في المجتمع
المدني، تخلص المسلمون من نزعة الاحتقار أو الازدراء، وضموا أبناء البلاد الوافدين
إليهم فشاركوهم في أموالهم وثرواتهم، بينما قدم الوافدون الجدد بالمقابل خبراتهم
وإخلاصهم وتفانيهم.
الرحمة والرأفة في الاقتصاد الإسلامي:
و من أسس البناء الاقتصادي انه مبني على الرأفة و
الرحمة بالفقراء و المحتاجين فقد حرم الله تعالى الربا باشكاله لأن الربا يمتص
دماء الفقراء و المحتاجين و لا يرحم فقرهم و حاجتهم
ويروي جرير بن عبد الله رضي الله عنه فيقول:
"جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء
حالهم قد أصابتهم حاجة؛ فحَثَّ الناس على الصدقة؛ فأبطئوا عنه حتى رُئيَ ذلك في
وجهه", قال: "ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصُرَّةٍ من وَرِقٍ, ثم جاء
آخر, ثم تتابعوا حتى عُرِفَ السرورُ في وجهه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ
مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ,
وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا
وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".([4])
أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد ......................................
بناء مجتمع يأكل من كد يمينه
و عرق جبينه :
واعلموا عباد الله أن من ركن إلى الراحة فاتته
الراحة لذا أمر النبي بالعمل و الاكتساب روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً من
الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله[ فقال: "أَمَا فِي بَيْتِكَ
شَيْءٌ؟", قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ,
وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ: "ائْتِنِي بِهِمَا"
قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ
وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ", قَالَ رَجُلٌ: "أَنَا
آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ", قَالَ: "مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا", قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ
فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ, وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا
الأَنْصَارِيَّ, وَقَالَ "اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى
أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ", فَأَتَاهُ بِهِ
فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ
لَهُ: "اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا", فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ؛ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ
عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ
تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, إِنَّ
الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي
غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ"([5])
وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيد الفقير
وأرشده إلى العمل وهيأ له آلته فأسهم في علاج مشكلته الزكاة من وسائل مكافحة الفقر
وفي فترة من التاريخ استطاع الإسلام بهذا محو الفقر والجوع في العالم فكان الغني
يحمل صدقاته وزكاة ماله فلا يجد فقيرا يقبلها منه وما ضنت السماء بمائها ولا شحت
الأرض بنباتها إلا بسبب بخل بعض الأغنياء وعدم إخراجهم زكاة أموالهم
حث النبي -صلى الله عليه وسلم-أصحابه على العمل
ونبذ البطالة والتعرض للمسألة فقد أخرج أحمد والبخاري عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ
(حَطَبٍ) عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ([6])
يقول ابن حجر رحمه الله: وفيه الحض على التعفف عن
المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك،
ولو لا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من
ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط، ولم يدخل على المسؤول من الضيق في ماله أعطي كل
سائل. أ. هـ
بناء مجتمع يسوده الحب في الله:
إخوة الإسلام حالنا اليوم يصوره لنا الشاعر بقوله :
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانا
وَنَهْجُو ذَا الزَّمَانَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ لَنا هَجَانَا
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئْبٍ وَيَأْكُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا عَيَانَا
لماذا لأننا فقدنا اوثق عري الإيمان الحب في الله
فاصبح المجتمع كالغابة يأكل فيها القوي الضعيف ......
فأصبح القوي يحنو على الضعيف
والغني يعطف على الفقير
والصحيح يرحم السقيم
قال نبيُّنا الأعظم - صلى الله عليه وسلَّم -:
((دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد، والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق
الشَّعر، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده، لا تَدْخلوا الجَنَّة حتى تُؤْمنوا،
ولا تؤمنوا حتى تحَابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يُثبت ذلك لكم؟ أَفْشوا السَّلام
بينكم))؛
إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى المجتمع على الحب
في الله تعالى عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ
وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ مِثْلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى "([7])
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ
عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا
يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ
إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ
أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ،
وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» ([8]).
فلا يجوز لمسلم أن يأكل ملء بطنه، وأن ينام ملء
عينه، وأن يضحك ملء فمه، وأن ينظر إلى أحوال إخوانه وأخواته هنا وهنالك فيهز كتفيه
ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيد ولا من قريب! فإن هذا لا يستحق هذه النسبة
الإسلامية الشريفة، بل إن الله جعل المؤمنين إخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]
[1] - أخرجه مسلم (2586)
[2] - خرجه أحمد 2/257 و395 و475 و496 و513، والحميدي (1056) و (1058) ، وابن أبي شيبة 3/209، والبخاري (1480)
[3] - ) المعجم الأوسط (7/ 56) (6835) والمعجم الكبير للطبراني (19/ 129)
(282) صحيح لغيره
[4] -أخرجه مسلم (1017) (69)
[5] - سنن أبي داود:ج2/ص120 ح1641
[6] - صحيح البخاري برقم (1471).
[7] - رواه البخاري برقم (6011)، ومسلم (2586).
[8] أخرجه مسلم برقم 2564.
تعليقات
إرسال تعليق