فتح العلي بفقه المنع والعطاء الإلهي.pdf



فتح العلي بفقه المنع والعطاء الإلهي

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا إخوة الإسلام نعيش في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر مع فتح العلي بفقه المنع والعطاء الإلهي.........

أدعوكم في هذا المقام أن تذكروا نعم الله سبحانه عليكم، فكم لله عليكم من نعم لا تعد ولا تحصى في مطعمكم ومشربكم وصحتكم وسمعكم وبصركم وجوارحكم، من يد تقدر بها على البطش، ورجل تقدر بها على المشي، ولسان تقدر به على النطق , وغير ذلك كثير , أما ما منعك الله كنعمة الولد فإنا نوصيك بأن تصبر، وتري الله من نفسك خيرا، وعليك أن تستشرف من وراء ذلك حكمة أحكم الحاكمين جلا وعلا، فإن منعه عطاء , وبلاءه عافية

اعلموا أن فقه المنع والعطاء من أعظم الأمور التي تريح القلوب وتشرح الصدور و عندما يفقه المسلم ذلك الأمر عاد المنع عين العطاء

 قال بعض السلف: يا ابن آدم نعمة الله عليك في ما تكره أعظم من نعمته عليك في ما تحب , وقال تعالى:  وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) {البقرة}.

وقال آخر: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك

إخوة الإسلام اعلموا أنَّ العطاءَ والمنعَ الدنيويَّ لا يُبنى عليه معيارُ محبةِ اللهِ عبدَه أو بغضِه له، وإنما يُعرفُ ذلك الحبُّ والبغضُ بالعطاءِ الدينيِّ ومنعِه، كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر: 15 - 17]، ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13.

يقول ابن القيم: فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه بخلا منه , ولا نقصا من خزائنه , ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد . بل منعه ليرده إليه , وليعزه بالتذلل له , وليغنيه بالافتقار إليه , وليجبره بالانكسار بين يديه , وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له , ولذة الفقر إليه , وليلبسه خلعة العبودية , ويوليه بعز له أشرف الولايات , وليشهده حكمته في قدرته , ورحمته في عزته , وبره ولطفه في قهره , وأن منعه عطاء , وعزله تولية , وعقوبته تأديب , وامتحانه محبة وعطية. انتهى .

واعلموا عباد الله أن المنع عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة , وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية , ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائما لطبعه , ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة والبلاء رحمة. انتهى .

وتأملوا أيها الأحباب قول الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) {الكهف}. أرسل الله عبده الخضر يقتل هذا الغلام خشية على أبويه أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر , قال قتادة في تفسير الآية : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما , فليرض امرؤ بقضاء الله , فإن قضاء الله للمؤمن في ما يكره خير له من قضائه في ما يحب . انتهى .

اسمعوا إلى قول ابن عطاء الله السكندري –رحمه الله (ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك ومتى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء) ؟

  هذه الحكمة تفسر وتبين وجه الحكمة من المنع والعطاء ، فربما أعطاك عز الدنيا ومنعك عز الآخرة ، وربما أعطاك إقبال الخلق عليك ومنعك من الأنس بالملك الحق ، وربما أعطاك المنصب والمال ومنعك من الراحة واحترام الناس لك .... وهكذا قل ما شئت .

  فمن فهم الحكمة من العطاء والمنع أصبح المنع من زخارف الدنيا هو عين العطاء لأنه منع عنك ما يشغلك عنه.

 مثل المريض الذي يمنعه أهله من لذيذ الطعام والشراب لماذا؟

 حبا له ورغبة في سرعة شفائه وتعافيه وليس كراهية له، فالمريض يتألم من المنع والمنع هو عين العطاء له، حيث يسرع منع لذيذ الطعام والشراب في زوال المرض ومجيئ الصحة والعافية.

وهذا المعنى قد أشار إليه حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه " ([1]). 

  كما أشار إليه حديث قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ ([2])

  قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير" : (حماه الدنيا) يعني: يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها، (الدنيا) أي حال بينه وبين نعيمها وشهواتها ووقاه أن يتلوث بزهرتها لئلا يمرض قلبه بها وبمحبتها وممارستها ويألفها ويكره الآخرة ، (كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء) أي شربه إذا كان يضره، وللماء حالة مشهورة في الحماية عند الأطباء، فهو جلّ اسمه يذود من أحبه عن الدنيا حتى لا يتدنس بها وبقذارتها ولا يشرق بغصصها، كيف وهي للكبار مؤذية وللعارفين شاغلة وللمريدين حائلة ولعامة المؤمنين قاطعة، والله - تعالى -لأوليائه ناصر، ولهم منها حافظ وإن أرادوها. ] اهـ.    

قال شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه لك، فإنه لم يمنعك بخلاً، إنما منعك لطفاً. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق.

ربما منعك فأعطاك:

ربما منعك الله المال فرزقك القناعة والرضا

لا تقل حرمني ولكن قل لطف ورحمني

لا تقل حرمني ما أريد

ولكن قل حرمني من شؤم ما أريد

 ليعطني لطف ما يريد لأنني عبد لمشيئة فعال لما يريد

قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ،: أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى جَوَامِيسَ لِبَشِيرٍ الطَّبَرِيِّ, نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِئَةِ جَامُوسٍ, قَالَ: فَاسْتَرْكَبَنِي, فَرَكِبْتُ مَعَهُ, أَنَا وَابْنٌ لَهُ, قَالَ: فَلَقِيَنَا عَبِيدُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْجَوَامِيسِ, مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ, فَقَالُوا: يَا مَوْلاَنَا, ذَهَبَتِ الْجَوَامِيسُ, فَقَالَ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا فَاذْهَبُوا مَعَهَا, فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَتِ أَفْقَرْتَنَا, فَقَالَ: اسْكُتْ أَيْ بُنَيَّ, إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ اخْتَبَرَنِي, فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَزِيدَهُ.([3])

وقال الحسنُ البصريُّ: "لا تَكرَهِ الملماتِ الواقعةَ، والبلايا الحادثةَ؛ فلَرُبَّ أمرٍ تكرهُه فيه نجاتُك، ولَرُبَّ أمرٍ ترجوه فيه عَطَبُك".

وقد يَهْلِكُ الإنسانُ مِن بابِ أمْنِه *** ويَنْجو بإذْنِ اللهِ مِن حيثُ يَحْذَرُ

وربما منعك المنصب فمنحك الراحة وقلة الشغل وصرف عنك العذاب:

ربما منعك الدنيا و أعطاك القرب منه فأنت تحافظ على الصلوات و تسارع إلى الطاعات و تتردد على بيوت رب الأرض و السموات{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 36، 38]

قال ابن مسعود رضي الله عنه : " إن العبد لَيَهمّ بالأمر من التجارة والإمارة ، حتى ييسر له ، فينظر الله إليه فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإني إن يسرته له أدخلته النار ، فيصرفه الله عنه ، فيظل يتطيّر ( أي يتشاءم ) ، يقول : سبقني فلان ، دهاني فلان ، وما هو إلا فضل الله عز وجل " . ([4])

إن اختيار الله تعالى خير من اختيار العبد لنفسه، فقد يتمنى الشخص مهنة معينة كالتجارة أو نحوها، فيصرفها الله تعالى عنه؛ لما في سابق علم الله تعالى أن هذه المهنة ستكون سببًا في شقاء هذا الشخص أو هلاكه.

ربما منعك الأبناء فرزقك محبة جميع المسلمين {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [مريم: 96]

قال الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]. فتأمل هذا التذييل الذي ختم به -سبحانه الآية- في قوله: إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي أن هبة الذكور أو هبة الإناث أو المنع من ذلك، كل ذلك تابع لعلمه -سبحانه- وقدرته، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقاً مهملاً عرياً عن الحكمة، لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات، فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته.

وربما أعطاك فمنعك:

ربما أعطاك المال فمنعك الطاعة قال الله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]

ربما أعطاك الأبناء فمنعك الأنس بذكره و قربه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9]

وروي عن بعض أحبار بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟

فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري؛ أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟([5])

يقول الله تعالى﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } كما قال تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } [ طه : 131 ] وقال : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] .

وقوله : { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } قال الحسن البصري : بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله .

[ سورة التوبة: 55]

سعادة المؤمنين في فهم حكم المنع والعطاء :

فأمرنا جميعاً خير، سواء كنّا في ضيق أو في يسر. يقول ابن عباس: «أول من يُدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين ي*حمدون الله تعالى على كل حال.» ويقول عبد الله بن مسعود: «لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت أَحب إلى من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان.»

 عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ([6])

، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ»([7])

عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى.

عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: أَصْبَحَ أَعْرَابِيٌّ وَقَدْ مَاتَتْ لَهُ أَبَاعِرُ كَثِيرَةٌ, فَقَالَ:

لاَ وَالَّذِي أَنَا عَبْدٌ فِي عِبَادَتِهِ ... لَوْلاَ شَمَاتَةُ أَعْدَاءٍ ذَوِي إِحَن

مَا سَرَّنِي أَنَّ إِبْلِي فِي مَبَارِكِهَا ... وَأَنَّ شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ لَمْ يَكُنِ([8]).

و تأملوا في فهم العارفين لمراد الله فيهم و كيف أحبو منع الله تعالى و بلائه نعمة تشكر  فاحبوا منعه مثلما احبوا عطائه

سَبْرَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَبْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا هَلَكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَمُزَاحِمُ, مَوْلَى عُمَرَ فِي أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ, دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ فَقَالَ: عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُصِيبَ بِأَعْظَمَ مِنْ مُصِيبَتِكَ فِي أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ, وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ ابْنِكَ ابْنًا, وَلاَ مِثْلَ أَخِيكَ أَخًا, وَلاَ مِثْلَ مَوْلاَكَ مَوْلًى قَطُّ, فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ, فَقَالَ لِي رَجُلٌ مَعَهُ عَلَى الْوِسَادِ: لَقَدْ هَيَّجْتَ عَلَيْهِ, قَالَ: ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ الآنَ يَا رَبِيعُ؟ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ مَا قُلْتُ أَوَّلاً, فَقَالَ: لاَ وَالَّذِي قَضَى عَلَيْهِ, أَوْ قَالَ: عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ مَا أُحِبُّ أَنَّ شَيْئًا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ.([9])

وما أدراك أنه شر؟ أو وما أدراك أنه خير؟

القصة: أن شيخاً كان يعيش فوق تل من التلال ويملك جواداً وحيداً محبباً إليه فهرب جواده وجاء إليه جيرانه يواسونه لهذا الحظ العاثر ، فأجابهم بلا حزن :

ومن أدراكم أنه حظٌ عاثر ؟

وبعد أيام قليلة عاد إليه الجواد مصطحباً معه عدداً من الخيول البرية فجاء إليه جيرانه يهنئونه على هذا الحظ السعيد، فأجابهم بلا تهلل:

ومن أدراكم أنه حظٌ سعيد؟

ولم تمض أيام حتى كان ابنه الشاب يدرب أحد هذه الخيول البرية فسقط من فوقه وكسرت ساقه وجاءوا للشيخ يواسونه في هذا الحظ السيء ، فأجابهم بلا هلع :

ومن أدراكم أنه حظ سيء؟

وبعد أسابيع قليلة أعلنت الحرب وجندت شباب القرية وأعفي ابن الشيخ من القتال لكسر ساقه فمات في الحرب شبابٌ كثيرون.

وهكذا ظل الحظ العاثر يمهد لحظ سعيد والحظ السعيد يمهد لحظ عاثر الى ما لا نهاية في القصة وليست في القصة فقط بل وفي الحياة كذلك

فالحكماء لا يغالون في الحزن على شيء فاتهم لأنهم لا يعرفون على وجهة

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم

الخطبة الثانية

أما بعد: ............................................................

عطاء الدنيا ليس بمقياس:

إخوة الإسلام: يظن كثير من الناس أن العطاء الدنيوي هو مقياس محبة الله تعالى للعبد وهذا فهم قاصر وغير صواب والذي يكشف لنا هذه الحقيقة القران الكريم سنة نبينا الأمين

أما القران فقد قال الرحيم الرحمن {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } [الإسراء: 18 - 21]

 وقال الله سبحانه {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 34، 35]

أما السنة: فقد اخبرنا حبيب القلوب حبيب علام الغيوب أن العطاء الدنيوي ليس بمقياس عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:َ" إنَّ اللهَ قَسَمَ بينَكُمْ أَخلاقَكُمْ كما قَسَمَ بيِنَكُمْ أرزاقَكُمْ ، وإنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ- يُعْطِي الدُّنيا مَنْ يحبُّ ومَنْ لا يحبُّ ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ، فمَنْ أعطاهُ الدِّينَ فَقدْ أحبَّهُ" ([10])

فيرى من يستحق هذه الرسالة والإيمان والقرآن فيمنحه الدين، ويرى أن بعض الناس لا يستحق الإيمان والصلاح، فلا يمنحه الإيمان: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].

ولما كان الإيمان غالياً، أعطاه الله بعض الناس من الفقراء والموالي، وحرمه بعض الأشراف من كفار مكة، ولذلك مات بعض الكفار كافراً، وقُتِلوا في بدر ودخلوا النار، أما الإيمان فعزيز، من أعطاه الله الإيمان فقد أحبه، ومن أدخل الإيمان بيته فقد أحبه.

ولذا صرف الله النعم الدنيوية عن أنبيائه صيانة لهم، وبسطها على أعدائه مكراً بهم، هل معنى هذا أنه لما أعطى الله قارون نعمة المال أن الله يحبه، ولما أعطى الله الوليد نعمة الولد هل الله يحبه؟! ولما أعطى الله فرعون نعمة الملك هل الله يحبه؟! لا.

لكن يمكر بهم، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].

فنحن نجد عند الكفار والعلمانيين والذين يصدون عن سبيل رب العالمين من زينة الدنيا ومن زهرتها أكثر مما عند أهل الإيمان؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.

الدعاء .....................................

 

 



[1] - رواه أحمد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1814)

[2] -" أخرجه الترمذي والطبراني والحاكم والبيهقي فى شعب الإيمان وابن حبان وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2036) .

[3] - الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا ت: الرقي (3/ 78)

[4] - ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/470) .

[5] - [الحلية (تهذيبه) 3 / 319].

[6] - أخرجه مسلم (3980)

[7] - سنن الترمذي 2151ضعيف، [الضعيفة (1800)، التعليق الرغيب (1/ 244) /

[8] - الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا ت: الرقي (3/ 77)

[9] - الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا ت: الرقي (3/ 96)

[10] - أحمد (1/387)، والبزار (2026)، والحاكم (1/33)، وأخرجه موقوفاً: ابن أبي شيبة: كتاب الزهد - باب كلام ابن مسعود رضي الله عنه (8/166)، والطبراني في الكبير (8990)، قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني، ورواته ثقات وليس في أصله رفعه، (2/283)، وقال الهيثمي في المجمع: إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1/53)، قال ابن عبد البر في التمهيد: إسناده ضعيف (24/437)، قلت: وفي إسناده الصباح بن محمد بن أبي حازم البجلي رفع حديثين لابن مسعود هما من قوله، انظر ميزان الاعتدال (2/306 ومسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وغيره (6/189-190) رقم (3672)، قال الدراقطني في ((العلل)): والصحيح موقوف (5/271).

فتح العلي بفقه المنع والعطاء الإلهي.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf