الشهيد الشاب مصعب بن عمير رضي الله عنه قدوة لشبابنا
الشهيد الشاب مصعب بن عمير. قدوة لشبابنا
أيها الإخوة: إنني سأتكلم في هذه
الخطبة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله، كان شابًا غنيًا مترفًا منعمًا حسن
الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، وكلما تعمق القارئ في ترجمته ازداد له هيبة وامتلأ
إعجابًا وإكبارًا له، فهو ممن وضعوا البنى الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته
ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه
الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد
الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئًا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا
التائهة.
وإنما أقصد بحديثي استلهام روح
البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنوانًا طيبًا صالحًا لبعث
الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث
التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد
مشرق ومستقبل باسم مليء بالأمجاد، لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو
مبتدع مارق، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة
للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة، وإنما لتبيين موطن العبرة
وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.
لهذا قال مؤرخو السير والتراجم: القصد
من ذكر أخبار الأخيار شرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك: (أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90]
الصحابي الجليل مصعب بن عمير كان من
فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام وأوجههم جاهًا وشأنًا؛ فقد كان
أحسن شباب مكة لباسًا وأطيبهم رائحة وأنعمهم جسماً، لكنه بعد إسلامه تغير حاله حتى
قال سعد بن أبي وقاص " لقد رأيته جهد في الإسلام
جهداً شديداً حتى قد رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية" وروى
الترمذي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال
"إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، إذ طلع علينا مصعب بن
عمير وما عليه إلا بردة مرقومة بفرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى
للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت
أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة. قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا
اليوم نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
"أنتم اليوم خير منكم يومئذ" .
وقد اخترت الحديث عنه كونه مثالا
واقعيا لشاب صغير ترعرع وكبر وتغير حياته وملئت بالكثير من الأحداث المهمة لشباب
اليوم.
صفات مصعب بن عمير:
هو شاب كانت الدنيا بين يديه، ولكن
دنياه لم تلهه عن آخرته، وكان الترف والتنعم وصفه ولكنه الترف لم يمنعه أن يقبل
الحق ويرضى به، ولم يعقه ذهاب الدنيا عن طلب نعيم الآخرة. كان نجما وبدرا، لا بل كان شمسا وقمرا، وقد كان
رضي الله عنه مثالا صادقا لعلو الهمة، وصدق النية، ومضاء العزيمة، وقوة الإرادة.
كان رقيق البشرة، حسن الشعر، جميل الوجه.
مصعب بن عمير قبل الإسلام:
ولد هذا الطفل الصغير لأبوين غنيين
ثريين كانا يفرطان في تدليله والإغداق عليه حتى صار مثلا يضرب في النعيم والترف،
فشوارع مكة وطرقاتها، ونواديها تعلم وجاهته وحسن طلعته فهو ذاك الطفل المترف
المدلل الذي تفوح منه روائح العطور والمسك والأطياب، ناعم المسكن وفاخر الثياب،
ولذيذ المطعم والشراب، كل هذا جعل كل مكة يغبطونه على عيشه، وبفتياتها اللائي
طالما تمنين مثله يا له من شاب وجيه.
كان في طفولته يلبس أرق الثياب وأنعمه،
ويطيب أزكى الطيب وأحسنه، وما عرفت مكة منعما مثله شبابا وجمالا، وحسنا وبهاء،
وتنعما ودلالا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير](رواه
بن سعد في الطبقات).
مصعب بن عمير بعد إسلامه:
حينما علم الشاب القرشي ببعثة النبي
محمد صلى الله عليه وسلم وانه يدعي
النبوة وعلم من حال النبي أنه يجالس
أصحابه خفية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، قرر الذهاب إليه..أين تذهب يا مصعب ولم
تذهب .. عن أي شيء تبحث وأنت الوجيه المترف..
لقد اتصف الشاب بذكائه الخارق وتطلعه للحق فلم يصدق ما حوله من عبادات
ويفتش داخله ومن حوله عن إله لهذا الكوان أفكارًا كثيرة كانت تلاحق الفتى في خلوته وتسيطر عليه حينما
كان يفكر فيما يعبده آباؤه وأجداده..حتى جاءته الفرصة ليبحث بنفسه فلم يتردد.
ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس
معه، وسمع منه؛ فوجد فيما يقوله بغيته وامانه فانشرح صدره، وأنار قلبه وهداه
للإسلام، فأسلم، لكنه لن يستيطع البوح على الأقل في هذه المرحلة؛ فكتم الفتى
إسلامه خوفا من بطش أمه وعشيرته..
أم مصعب تكتشف إسلامه:
لم يمض كثير وقت حتى علمت أمه بإسلامه
حين رآه عثمان بن طلحة يصلى، فأخبر أمه فكادت أن تجن، وكاد عقلها أن يطيش.. كيف
يترك دينها ودين أبائه وآبائها ليذهب إلى هؤلاء الفقراء المضطهدين؟.. وأعادت عليه
الأسئلة ذاتها ماذا تريد، ما الذي ينقصك؟
ما الذي تحتاجه؟ ما الذي لا تجده عندي فذهبت تبحث عنه في دين محمد؟.. تقول هذا وهي
لا تعلم أن انشراح الصدر نعمة من أجل النعم
وأن نور اليقين يفوق المسك والعطر والحياة الرغيدة..
حاولت معه!! اطلب ما تريد، سل ما تشاء،
أي شيء لكن اترك دين محمد!!
نوعت أسلوبها معه فهي مرة ترغبه، وأخرى
ترهبه، وتخوفه وتتوعده .. لكن هيهات هيهات فقلب الفتى قد امتلأ بالإيمان وليس
بمقدورها أن تزحزحه قيد أنملة.
ثبات مصعب بن عمير على الحق:
لما لم تجد وسيلة لإرجاعه استخدمت نقطة
ضعفه فهو يحبها جدا ومن أبر الناس بها فراحت تقسم عليه لئن لم يرجع لتقف تحت حر
الشمس ولا تستظل ولا تأكل ولا تشرب، وفعلا نفذت ووقفت تحت لهيب الشمس الحارقة حتى
غشي عليها مرات ويحملونها للبيت، ولكن الفتى ثابت على الحق لا يتزحزح، فلما رأت
ثباته أدركت أن سياسة الترغيب والاستعطاف لا تجدي، حبسته وسلبته النعيم, ومنعته
وجوعته وعذبته أشد أنواع العذاب؛ حتى تغير لونه، وذهب لحمه، وأنهك جسده حتى إن رآه أحد لا يعرفه،فلما يئست منه وكاد
يموت أطلقته.
شهادة الرسول لمصعب بن عمير:
خرج الفتى بعدما تغير حاله وصار مرقع
الثوب يعاني الجوع وقد حرم النعيم الذي كان يعرف به لم يضره شيء ولم يتغير قلبه
وذهب لأصحابه المسلمين وعليه نمرة قد وصلها بإهاب، (قطعة قماش موصول بجلد)، يستر
بها بدنه النحيل، فلما رآه الصحابة نكسوا رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم ما يقدمونه
له، سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي عليه السلام ثم قال صلوات الله
عليه وسلامه: [الحمد لله.. يقلب الدنيا بأهلها.. لقد
رأيت هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وحب
الله ورسوله].. فكانت شهادة وأي شهادة بصدقه وإخلاصه وحبه لله ولرسوله.
مصعب يهاجر للحبشة:
توالت عليه الأحداث فلم يفكر في تغير
حاله كما يفكر الشباب اليوم لم يندم على ترك نعيم الدنيا فهمو من اتخذ القرار
وقدّم الله ورسوله على الدنيا بأثرها فاستعذب لذلك كل ضيق حتى نصره الله وأيده،
فلما ضاقت عليه مكة كما ضاقت على إخوانه من المسلمين، فخرج مع من خرج إلى الحبشة،
تاركا مراتع الصبى ومواطن العز، فذاق ألم الغربة، وبؤس العيش، ولم يتوقف الأمر بل دخل الشعب مع النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، فأضناه الجوع، وأرهقه العطش، وأعياه الضنى والتعب، حتى
تحشف جلده وتناثر كما يتناثر جلد الحية، ولم يعد يقوى على المشي.. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كَانَ ـ مصعب ـ
أَتْرَفَ غُلاَمٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِيْمَا بَيْنَنَا، فَلَمَّا
أَصَابَهُ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّ
جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الحَيَّةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ
يَنْقَطِعُ بِهِ، فَمَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَمْشِي، فَنَعْرِضُ لَهُ القِسِيَّ
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى عَوَاتِقِنَا).
مصعب بن عمير.. سفير
الإسلام:
وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في
مكة ويأتي عام الحزن وينتهي، وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة
من النبوة وأسلم منهم ستة نفر، وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته إلى قومهم، وكان من
جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً، اجتمع هؤلاء مع النبي عند
العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي
مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام،
ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار
لهذه المهمة الشاقة شابًّا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، ألا وهو مصعب بن
عمير -رضي الله عنه-.
قال البراء بن عازب: أول
من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة
-حرسها الله-.
كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به
ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم
ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام، فعليه إذًا أن يجتهد في
الدعوة، وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا،
نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة، ولعلنا
لا نجد لهذا الصحابي ذكرًا كثيرًا في كتب السيرة، والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة
الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة -رضي الله عنهما- يبثان الإسلام في أهل
يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبًا بالقاري والمقري.
ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير
أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام؛ إذ
استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرًا من أهل يثرب على الإسلام؛ حتى إن
قبيلة من أكبر قبائل يثرب -وهي قبيلة بني عبد الأشهل- قد أسلمت جميعها على يده
بقيادة رئيسها سعد بن معاذ -رضي الله عنه-.
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة
أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط
من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من
المسلمين -وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذٍ على
الشرك-، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا
فازجرهما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما: فلما
رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وجاء أسيد فوقف عليهما
متشمتًا، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفها ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما
حجة، فقال له مصعب: "أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكفّ
عنك ما تكره"، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب عن الإسلام، وتلا
عليه القرآن، قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله،
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله!! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟!
فقالا له كيف يفعل، فاغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد، وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي
رجلاً إن أسلم لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن، ثم ذهب إلى سعد بن معاذ
فلما رآه سعد قال لقومه: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما
وقف أسيد على النادي قال لسعد: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد
نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، ثم حثّ سعدًا على الذهاب، فلما ذهب سعد ورآه أسعد
بن زرارة قال لمصعب: جاءك والله من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد،
وجاء سعد فوقف عليهما متشمتًا، فقال مصعب لسعد بن معاذ: "أو تقعد فتسمع، فإن
رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره"، قال: أنصفت، ثم ركز حربته
فجلس.
حب مصعب للجهاد:
ومن فضائله رضي الله عنه حبه للجهاد
ونصرة الحق بالكلمة والسيف لا يتوانتى عن تقديم ما يطلبه منه رسول الله فكان خير
قدوة لمن يحب الله ورسوله جاهد يوم بدر، ولما كانت غزوة أحد وحدث للمسلمين ما حدث
ـ ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر قليل منهم مصعب بن عمير، الذي كان يحمل
لواء المسلمين في المعركة وظل يجاهد وهو ممسك الراية بيده فما اهتزت حتى أشيع موت
رسول الله فثبت أيضا مصعب مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم
وأقبل رضي الله عنه يحمل الراية ويهتف مرددا قول الحق عز شأنه: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزئ الله الشاكرين}،
فتقدم إليه عدو الله "ابن قمئة" فشد عليه، وضرب يده اليمنى فقطعها، ثم
أخذ رضي الله عنه اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع، فضرب ابن القمئة يده اليسرى
فقطعها، فانحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، فحمل عليه عدو الله الثالثة
فأهوى بالرمح على جسده الطاهر، فخر رضي الله عنه على الأرض صريعاً.
استشهاد مصعب بن عمير:
قضى مصعب بن عمير رضي الله عنه نحبه في
هذه المعركة المباركة بعد إصرار وثبات منقطع النظير لا يخاف الموت وكل همه الدفاع
عن رسول الله وألا يغير أوامره، استشهد وهو ابن أربعين سنة، ولما انقضت المعركة مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء يتفقدهم، يعرج على الأجساد الطاهرة،
وعلى القلوب الوفية، يقلب النظر في ثلة قدموا أرواحهم فداء لنصرة الدين، وبذلوا
أنفسهم ثمناً لجنة أعدت للمتقين، مر بهم صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً، فلما
حاذى مصعبا وقف عنده ورفع يديه يدعو له ثم قرأ قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، لما أرادوا أن يكفنوه بحثوا عن شيء ليكفنوه
فيه فما وجدوا إلا بردة يقول عنها خباب بن الأرت رضي
الله عنه: "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله،
فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير
رضي الله عنه، قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا
غطينا رجليه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: [غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من
الإذخر].
خرج مصعب بن عمير من هذه الدنيا راضيا مرضيا وقد
ترك سيرته العطرة قدوة لشباب اليوم الذي أخذ الكثير منهم
يرتعون في الدنيا غافلين عن واجباتهم ولا يعرفون شيئا عن حياة الأطهار من الصحابة
والتابعين بقدر ما يعرفون عن رجال السياسة والفن والغناء.. بل لا يكادون يعرفون
اسم مصعب بن عمير فضلا عن سيرته.. رحمه الله وغفر له وألحقنا به عل خير.
الشهيد الشاب مصعب بن عمير. قدوة الشباب
أيها الإخوة: إنني سأتكلم في هذه
الخطبة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله، كان شابًا غنيًا مترفًا منعمًا حسن
الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، وكلما تعمق القارئ في ترجمته ازداد له هيبة وامتلأ
إعجابًا وإكبارًا له، فهو ممن وضعوا البنى الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته
ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه
الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد
الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئًا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا
التائهة.
وإنما أقصد بحديثي استلهام روح
البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنوانًا طيبًا صالحًا لبعث
الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث
التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد
مشرق ومستقبل باسم مليء بالأمجاد، لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو
مبتدع مارق، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة
للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة، وإنما لتبيين موطن العبرة
وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.
لهذا قال مؤرخو السير والتراجم: القصد
من ذكر أخبار الأخيار شرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك: (أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90]
الصحابي الجليل مصعب بن عمير كان من
فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام وأوجههم جاهًا وشأنًا؛ فقد كان
أحسن شباب مكة لباسًا وأطيبهم رائحة وأنعمهم جسماً، لكنه بعد إسلامه تغير حاله حتى
قال سعد بن أبي وقاص " لقد رأيته جهد في الإسلام
جهداً شديداً حتى قد رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية" وروى
الترمذي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال
"إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، إذ طلع علينا مصعب بن
عمير وما عليه إلا بردة مرقومة بفرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى
للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت
أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة. قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا
اليوم نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
"أنتم اليوم خير منكم يومئذ" .
وقد اخترت الحديث عنه كونه مثالا
واقعيا لشاب صغير ترعرع وكبر وتغير حياته وملئت بالكثير من الأحداث المهمة لشباب
اليوم.
صفات مصعب بن عمير:
هو شاب كانت الدنيا بين يديه، ولكن
دنياه لم تلهه عن آخرته، وكان الترف والتنعم وصفه ولكنه الترف لم يمنعه أن يقبل
الحق ويرضى به، ولم يعقه ذهاب الدنيا عن طلب نعيم الآخرة. كان نجما وبدرا، لا بل كان شمسا وقمرا، وقد كان
رضي الله عنه مثالا صادقا لعلو الهمة، وصدق النية، ومضاء العزيمة، وقوة الإرادة.
كان رقيق البشرة، حسن الشعر، جميل الوجه.
مصعب بن عمير قبل الإسلام:
ولد هذا الطفل الصغير لأبوين غنيين
ثريين كانا يفرطان في تدليله والإغداق عليه حتى صار مثلا يضرب في النعيم والترف،
فشوارع مكة وطرقاتها، ونواديها تعلم وجاهته وحسن طلعته فهو ذاك الطفل المترف
المدلل الذي تفوح منه روائح العطور والمسك والأطياب، ناعم المسكن وفاخر الثياب،
ولذيذ المطعم والشراب، كل هذا جعل كل مكة يغبطونه على عيشه، وبفتياتها اللائي
طالما تمنين مثله يا له من شاب وجيه.
كان في طفولته يلبس أرق الثياب وأنعمه،
ويطيب أزكى الطيب وأحسنه، وما عرفت مكة منعما مثله شبابا وجمالا، وحسنا وبهاء،
وتنعما ودلالا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير](رواه
بن سعد في الطبقات).
مصعب بن عمير بعد إسلامه:
حينما علم الشاب القرشي ببعثة النبي
محمد صلى الله عليه وسلم وانه يدعي
النبوة وعلم من حال النبي أنه يجالس
أصحابه خفية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، قرر الذهاب إليه..أين تذهب يا مصعب ولم
تذهب .. عن أي شيء تبحث وأنت الوجيه المترف..
لقد اتصف الشاب بذكائه الخارق وتطلعه للحق فلم يصدق ما حوله من عبادات
ويفتش داخله ومن حوله عن إله لهذا الكوان أفكارًا كثيرة كانت تلاحق الفتى في خلوته وتسيطر عليه حينما
كان يفكر فيما يعبده آباؤه وأجداده..حتى جاءته الفرصة ليبحث بنفسه فلم يتردد.
ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس
معه، وسمع منه؛ فوجد فيما يقوله بغيته وامانه فانشرح صدره، وأنار قلبه وهداه
للإسلام، فأسلم، لكنه لن يستيطع البوح على الأقل في هذه المرحلة؛ فكتم الفتى
إسلامه خوفا من بطش أمه وعشيرته..
أم مصعب تكتشف إسلامه:
لم يمض كثير وقت حتى علمت أمه بإسلامه
حين رآه عثمان بن طلحة يصلى، فأخبر أمه فكادت أن تجن، وكاد عقلها أن يطيش.. كيف
يترك دينها ودين أبائه وآبائها ليذهب إلى هؤلاء الفقراء المضطهدين؟.. وأعادت عليه
الأسئلة ذاتها ماذا تريد، ما الذي ينقصك؟
ما الذي تحتاجه؟ ما الذي لا تجده عندي فذهبت تبحث عنه في دين محمد؟.. تقول هذا وهي
لا تعلم أن انشراح الصدر نعمة من أجل النعم
وأن نور اليقين يفوق المسك والعطر والحياة الرغيدة..
حاولت معه!! اطلب ما تريد، سل ما تشاء،
أي شيء لكن اترك دين محمد!!
نوعت أسلوبها معه فهي مرة ترغبه، وأخرى
ترهبه، وتخوفه وتتوعده .. لكن هيهات هيهات فقلب الفتى قد امتلأ بالإيمان وليس
بمقدورها أن تزحزحه قيد أنملة.
ثبات مصعب بن عمير على الحق:
لما لم تجد وسيلة لإرجاعه استخدمت نقطة
ضعفه فهو يحبها جدا ومن أبر الناس بها فراحت تقسم عليه لئن لم يرجع لتقف تحت حر
الشمس ولا تستظل ولا تأكل ولا تشرب، وفعلا نفذت ووقفت تحت لهيب الشمس الحارقة حتى
غشي عليها مرات ويحملونها للبيت، ولكن الفتى ثابت على الحق لا يتزحزح، فلما رأت
ثباته أدركت أن سياسة الترغيب والاستعطاف لا تجدي، حبسته وسلبته النعيم, ومنعته
وجوعته وعذبته أشد أنواع العذاب؛ حتى تغير لونه، وذهب لحمه، وأنهك جسده حتى إن رآه أحد لا يعرفه،فلما يئست منه وكاد
يموت أطلقته.
شهادة الرسول لمصعب بن عمير:
خرج الفتى بعدما تغير حاله وصار مرقع
الثوب يعاني الجوع وقد حرم النعيم الذي كان يعرف به لم يضره شيء ولم يتغير قلبه
وذهب لأصحابه المسلمين وعليه نمرة قد وصلها بإهاب، (قطعة قماش موصول بجلد)، يستر
بها بدنه النحيل، فلما رآه الصحابة نكسوا رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم ما يقدمونه
له، سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي عليه السلام ثم قال صلوات الله
عليه وسلامه: [الحمد لله.. يقلب الدنيا بأهلها.. لقد
رأيت هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وحب
الله ورسوله].. فكانت شهادة وأي شهادة بصدقه وإخلاصه وحبه لله ولرسوله.
مصعب يهاجر للحبشة:
توالت عليه الأحداث فلم يفكر في تغير
حاله كما يفكر الشباب اليوم لم يندم على ترك نعيم الدنيا فهمو من اتخذ القرار
وقدّم الله ورسوله على الدنيا بأثرها فاستعذب لذلك كل ضيق حتى نصره الله وأيده،
فلما ضاقت عليه مكة كما ضاقت على إخوانه من المسلمين، فخرج مع من خرج إلى الحبشة،
تاركا مراتع الصبى ومواطن العز، فذاق ألم الغربة، وبؤس العيش، ولم يتوقف الأمر بل دخل الشعب مع النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، فأضناه الجوع، وأرهقه العطش، وأعياه الضنى والتعب، حتى
تحشف جلده وتناثر كما يتناثر جلد الحية، ولم يعد يقوى على المشي.. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كَانَ ـ مصعب ـ
أَتْرَفَ غُلاَمٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِيْمَا بَيْنَنَا، فَلَمَّا
أَصَابَهُ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّ
جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الحَيَّةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ
يَنْقَطِعُ بِهِ، فَمَا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَمْشِي، فَنَعْرِضُ لَهُ القِسِيَّ
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى عَوَاتِقِنَا).
مصعب بن عمير.. سفير
الإسلام:
وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في
مكة ويأتي عام الحزن وينتهي، وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة
من النبوة وأسلم منهم ستة نفر، وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته إلى قومهم، وكان من
جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً، اجتمع هؤلاء مع النبي عند
العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي
مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام،
ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار
لهذه المهمة الشاقة شابًّا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، ألا وهو مصعب بن
عمير -رضي الله عنه-.
قال البراء بن عازب: أول
من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة
-حرسها الله-.
كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به
ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم
ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام، فعليه إذًا أن يجتهد في
الدعوة، وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا،
نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة، ولعلنا
لا نجد لهذا الصحابي ذكرًا كثيرًا في كتب السيرة، والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة
الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة -رضي الله عنهما- يبثان الإسلام في أهل
يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبًا بالقاري والمقري.
ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير
أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام؛ إذ
استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرًا من أهل يثرب على الإسلام؛ حتى إن
قبيلة من أكبر قبائل يثرب -وهي قبيلة بني عبد الأشهل- قد أسلمت جميعها على يده
بقيادة رئيسها سعد بن معاذ -رضي الله عنه-.
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة
أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط
من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من
المسلمين -وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذٍ على
الشرك-، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا
فازجرهما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما: فلما
رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وجاء أسيد فوقف عليهما
متشمتًا، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفها ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما
حجة، فقال له مصعب: "أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكفّ
عنك ما تكره"، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب عن الإسلام، وتلا
عليه القرآن، قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله،
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله!! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟!
فقالا له كيف يفعل، فاغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد، وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي
رجلاً إن أسلم لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن، ثم ذهب إلى سعد بن معاذ
فلما رآه سعد قال لقومه: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما
وقف أسيد على النادي قال لسعد: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد
نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، ثم حثّ سعدًا على الذهاب، فلما ذهب سعد ورآه أسعد
بن زرارة قال لمصعب: جاءك والله من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد،
وجاء سعد فوقف عليهما متشمتًا، فقال مصعب لسعد بن معاذ: "أو تقعد فتسمع، فإن
رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره"، قال: أنصفت، ثم ركز حربته
فجلس.
حب مصعب للجهاد:
ومن فضائله رضي الله عنه حبه للجهاد
ونصرة الحق بالكلمة والسيف لا يتوانتى عن تقديم ما يطلبه منه رسول الله فكان خير
قدوة لمن يحب الله ورسوله جاهد يوم بدر، ولما كانت غزوة أحد وحدث للمسلمين ما حدث
ـ ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر قليل منهم مصعب بن عمير، الذي كان يحمل
لواء المسلمين في المعركة وظل يجاهد وهو ممسك الراية بيده فما اهتزت حتى أشيع موت
رسول الله فثبت أيضا مصعب مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم
وأقبل رضي الله عنه يحمل الراية ويهتف مرددا قول الحق عز شأنه: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزئ الله الشاكرين}،
فتقدم إليه عدو الله "ابن قمئة" فشد عليه، وضرب يده اليمنى فقطعها، ثم
أخذ رضي الله عنه اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع، فضرب ابن القمئة يده اليسرى
فقطعها، فانحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، فحمل عليه عدو الله الثالثة
فأهوى بالرمح على جسده الطاهر، فخر رضي الله عنه على الأرض صريعاً.
استشهاد مصعب بن عمير:
قضى مصعب بن عمير رضي الله عنه نحبه في
هذه المعركة المباركة بعد إصرار وثبات منقطع النظير لا يخاف الموت وكل همه الدفاع
عن رسول الله وألا يغير أوامره، استشهد وهو ابن أربعين سنة، ولما انقضت المعركة مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء يتفقدهم، يعرج على الأجساد الطاهرة،
وعلى القلوب الوفية، يقلب النظر في ثلة قدموا أرواحهم فداء لنصرة الدين، وبذلوا
أنفسهم ثمناً لجنة أعدت للمتقين، مر بهم صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً، فلما
حاذى مصعبا وقف عنده ورفع يديه يدعو له ثم قرأ قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، لما أرادوا أن يكفنوه بحثوا عن شيء ليكفنوه
فيه فما وجدوا إلا بردة يقول عنها خباب بن الأرت رضي
الله عنه: "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله،
فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير
رضي الله عنه، قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا
غطينا رجليه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: [غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من
الإذخر].
خرج مصعب بن عمير من هذه الدنيا راضيا مرضيا وقد
ترك سيرته العطرة قدوة لشباب اليوم الذي أخذ الكثير منهم
يرتعون في الدنيا غافلين عن واجباتهم ولا يعرفون شيئا عن حياة الأطهار من الصحابة
والتابعين بقدر ما يعرفون عن رجال السياسة والفن والغناء.. بل لا يكادون يعرفون
اسم مصعب بن عمير فضلا عن سيرته.. رحمه الله وغفر له وألحقنا به عل خير.
تعليقات
إرسال تعليق