رحلة الشوق والحنين إلى بلد الله الأمين.pdf
رحلة الشوق والحنين إلى بلد الله الأمين
للشيخ
السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
أخي المسلم: هيا لنعيش مع الحج ،مع رحلة الشوق والحنين
إلى بيت الله الأمين إلى رحلة الطهارة ... إلى رحلة المغفرة ... إلى رحلة العتق من
النار ... إليها يشتاق العاشقين واليها يهفوا الفقراء والمساكين إجابة لنداء
إبراهيم عليه السلام ... هامت الأنفس وطارت الأفئدة ودمعت العيون واشتاقت الجوانح.
يقول سبحانه وتعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } [الحج: 27]
هجرت
الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال
لكي أراكا
ولو
قطـعتني في الحب إرباً لما حن الفؤاد
إلى سـواكا
تجاوز
عـن ضعيف قد أتاك وجاء راجيا يرجوا
نـداكا
وإن
يك يا مهيمن قد عصاكا مقراً بالذنوب
وقد دعاكا
وإن
تغفر فأنت لـذاك أهل وان تطرد فمن
يرحم سواكا
ويقول سبحانه وتعالي {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] وانظر إلى حال العاشقين وأحوال
المحبين كيف اشتاقت نفوسهم إلى رؤية البلد الأمين .
ففي
موسم من مواسم الحج وصلت طائرة إلى مكة وأخذ الناس ينزلون من الطائرة وكان في
مقدمة الركب المبارك امرأة عجوز بلغت من بلغت من الكبر عتياً كلها شوق وكلها حنين
إلى تلك المباركة وما إن وصلت إلى آخر درجة من سلم الطائرة حتى خرت ساجدة أطالت
السجود وهنا وقف الجميع أطالت المرأة السجود فتوجه نحوها أحد الحجاج وإذا بالمرأة
قد فارقت الحياة قال أحد الحجاج – وكان من بلدها إنها منذ ثلاثين سنة تجمع ذلك
المال لتصل إلى هنا – يعني إلى البيت الحرام حالها كقول القائل يوم أن قال :
-يا
كعبة الحسن كم من عاشق قتلا شوقاً إليك
ورام الوصل ما وصل
-قد
يتمت بعده الأولاد حين سري وظل يبكي
بدمع فاض منهملاً
-فكم
غريق بـحار في هـواك غدا وآخر ظل في
البيداء منجدلاً
-وانتم
معشر الــزوار قربكـم إلى مقام بها آمن
لمن دخـلا
-فـلا
تخـافوا فـأنتم في ضيافته فهو الكريم
الذي بالجود ما بخلا
وذكر
ابن الجوزي – رحمه الله -عن عبد الله بن الجلاء قال: كنت بذي الحليفة وأنا أريد
الحج والناس يحرمون فرأيت شابا قد صُب عليه لما يريد الإحرام وأنا أنظر إليه فقال
: أريد أن أقول لبيك اللهم لبيك وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك وبقى يردد هذا
القول مراراً وأنا أتسمع عليه فلما أكثر قلت له ليس لك من الأمر بد فقل فقال يا
شيخ أخشى إن قلت لبيك اللهم لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك فقلت له احسن الظن
بالله وقل معي لبيك اللهم لبيك فقال :
لبيك اللهم وطولها وخرجت نفسه مع قوله اللهم فسقط مغشيا عليه 0
وهذا
الشاب يشير إلى حديث رسول الله -صلي الله عليه وسلم- " إذا خرج الرجل حاجاً
بنفقه طيبة ووضع رجله في الغرز فنادي لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لبيك
وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور" . وإذا خرج بالنفقة
الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادي لبيك اللهم ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا
سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور "(1)
واسمع
إلى حال المنقطعين عن البيت لفقر أو مرض ذكر الهروي في كتابه أنوار الحجج في أسرار
الحج . قال : خرجت أم ايمن زوجة أبو علي الروذباري من مصر وقت خروج الحاج إلى
الصحراء وتري الجمال تتجه إلى مكة وتتقطع نفسها وهي تقول هذه حسرة من انقطع عن
البيت فكيف حسرة من انقطع عن رب البيت ؟! ( [1])
لا
إله إلا الله انه الشوق والغرام لدعوة إبراهيم عليه السلام - "فجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم "
وانظر
إلى حال العاشقين وحنين المحبين عند رؤية البيت الحرام 0
علقت
حب منابت الريحـان وأنا الذي مالي
بذاك يدان
فلم
الملام ولم تذق طعم الهوى هيهات تدرك
لوعة الحـرمان
جرح
الأحبة في الصبابة واحد ولدي من طول
النوى جرحان
مشتاق
للبيت العتيق نواظري والي ثري ارض النبي
كـياني
ومآذن
الحرمين يسكن طيفها في خـاطري وآذانها
بجـناني
ولماء
زمزم في الجـوانح غلة ولملتقى عـرفات حـن زماني
ويسوقني
الشوق المؤرق جفنه لربا الحجاز بهادر
التحنان
لا
نمرو أن يشتد بي حر ظمـأ فلنور احمد
يظمأ الثقلان
· ويقول
عبد الستار سليم:
أم
القرى بالحج تشرق أرضها واليه تهفو
بالحنين قلوب
ومن
الحجيج مواكب تسعي لها عند الآذان
رجالة وركوب
من كل
فج ليس يوهن عزمها إقبال دنيا أو أذى ولغوب
وعن
شعبة عن أبى إسحاق قال حج مسروق فلم يتم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع
وقال الربيع بن سليمان حججنا مع الشافعي فما
ارتقا شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي0
وذكر بن الجوزي رحمه الله -عن عبد العزيز بن أبي
رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون
الساعة ترينه. فلما
رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وهي تقول: بيت ربي بيت ربي حتى
وضعت جبهتها على البيت فوالله ما رفعت إلا ميته "([2])
وفي
مقـام خليل الله موقفنا والركعتان جنان
الكون تختصر
تبدت
الكعبة الزهراء حالية مجلوة فعيون
القـوم تنبهــر
هنا
يلوذ بباب الله مـلتزم هنا يطـوف
بفلك الله معتمر
لا إله إلا الله هذا حال
المخبتين فكيف حال العاصين ؟!
هذا حال المنيبين فكيف حال المذنبين ؟!
اسمع إلى دعاء المنكسرين بين يدي رب العالمين
ذكر ابن الجوزي رحمه الله عن محمد بن صالح قال:
بينما أنا في الطواف إذ نظرت إلى أعرابي بدوي متعلق بأستار الكعبة وقد شخص بصره
نحو السماء وهو يقول : يا خير من وفد الأنام إليه ذهبت أيامي وضعفت قوتي ، وقد
وردت بيتك الحرام المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ولا تغسلها
البحار مستجيراً بعفوك منها، وحططت رحلي بفنائك
واتفقت مالي في رضاك فماذا الذي يكون من جزائك يا مولاي؟
ثم أقبل على الناس
يوجهه الساعة ترينه.
فلما رأوه قالوا : هذا بيت ربك أما ترينه ؟
فخرجت تشتد وهي تقول : بيت ربي بيت ربي حتى وضعت جبهتها على البيت فوالله ما رفعت
إلا ميته "([3])
وفي
مقـام خليل الله موقفنا والركعتان
جنان الكون تختصر
تبدت
الكعبة الزهراء حالية مجلوة فعيون
القـوم تنبهــر
هنا
يلوذ بباب الله مـلتزم هنا يطـوف
بفلك الله معتمر
لا إله إلا الله هذا حال
المخبتين فكيف حال العاصين ؟!
هذا حال المنيبين فكيف حال المذنبين ؟!
اسمع إلى دعاء المنكسرين بين يدي رب العالمين
ذكر ابن الجوزي رحمه الله عن محمد بن صالح قال:
بينما أنا في الطواف إذ نظرت إلى أعرابي بدوي متعلق بأستار الكعبة وقد شخص بصره
نحو السماء وهو يقول : يا خير من وفد الأنام إليه ذهبت أيامي وضعفت قوتي ، وقد
وردت بيتك الحرام المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ولا تغسلها
البحار مستجيراً بعفوك منها ، وحططت رحلي بفنائك
واتفقت مالي في رضاك فماذا الذي يكون من جزائك يا مولاي ؟
ثم أقبل علي الناس يوجهه
فقال : يا معشر الناس ادعوا وكزته الخطايا
وغمرته البلايا ، ارحموا أسير ضروا غريب فاقه سألتكم بالذي عمتكم الرغبة إليه إلا
سألتم الله تعالي أن يهب لي جرمي ويغفر لي ذنوبي ثم عاد فتعلق بأستار الكعبة وقال
: الهي وسيدي عظيم الذنب مكروب وعن صالح الأعمال مردود وقد أصبحت ذا فاقة إلى
رحمتك يا مولاي .
يقول محمد بن صالح : ثم
رأيته بعرفات وقد وضع يساره علي أم رأسه يصرخ ويبكي ويشهق ويقول الهي وسيدي ومولاي
أضحكت الأرض بالزهر وأمطرت السماء بالرحمة. والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة
لي ولهم منك بالرضا وكيف لا يكون كذلك وأنت حبيب من نحبب إليك وقرة عين من لاذ بك
وانقطع إليك ؟ يا مولاي حقا حقا أقول لقد رأيت بمكارم الأخلاق فاجعل وفودي إليك
عتق رقبتي من النار )(([4]
)
-حاله دائما وأبداً: -
الهي
وقفت دموعي تسيل وقلبي ببابك باك
ذليل
فذنبي
كبير وزادي قلـيل فمن علي بعفو
جمـيل
أتيت
أجر خطـايا السنين أتيت إلى أحكم
الحاكمين
وكلي
اعتقاد وكـلي يقين بأن لديك شفاء
العليل
سألتك
مغفـرة للـذنوب وستر لما مسنا من
عيوب
فأنت
الهي طيب القلـوب ونور هواك يضيء
السبيل
وعلي عرفات تسيل العبرات وتشتاق إلي رحمة ري
الأرض والسموات ولم لا الله جل جلاله
يباهي بأهل الموقف ملائكته
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلي
الله عليه وسلم-" ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبداً أو أمة من النار من
يوم عرفة، وانه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء "([5])
واخرج الترمذي عن رسول الله -صلي الله عليه
وسلم-قال " خير الدعاء يوم عرفه وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير "([6])
يقول المناوي - رحمه الله - (
وخير ما قلت ) قال الطيبي : أي ما دعوت فهو بيان له ( أنا والنبيون من قبلي )
الظاهر أنه أراد بهم ما يشمل المرسلين ( لا إله ) أي لا معبود في الوجود بحق ( إلا
الله ) الواجب الوجود لذاته ( وحده ) تأكيد لتوحيد الذات والصفات فهو رد على
الكرامية والجهمية القائلين بحدوث الصفات ذكره البيهقي ( لا شريك له ) تأكيد
لتوحيد الأفعال ففيه رد على المعتزلة ( له الملك ) قال السهيلي : هذا أخذ في إثبات
ما له بعد نفي ما لا يجوز عليه ( وله الحمد ) قدم الملك عليه لأنه ملك فحمد في
مملكته ثم ختم بقوله ( وهو على كل شيء قدير ) ليتم معنى الحمد إذ لا يحمد المنعم
حقيقة حتى يعلم أنه لو شاء لم ينعم وإن كان قادرا على المنع وكان جائزا أن يمنع
وأن يجود فلما كان جائزا له الوجهان جميعا ثم فعل الإنعام واستحق الحمد على الكمال
لا كما تقول المعتزلة يجب عليه إصلاح الخليفة)( [7])
هيا لترى وتسمع أحوال المشتاقين
إلى بلد الله الأمين وإلى عرفات الله . الفضيل بن عياض . وقف بعرفه والناس يدعون
وهو يبكي بكاء الثكلى – المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء فلما كادت الشمس
أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال واسوءتاه منك وان عفوت "[8])
وروي عن الفضيل أيضا – انه نظر إلى نشيج -البكاء
الشديد –– الناس وبكائهم عشية عرفه فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل
فسألوه دافقا – يعني سدس درهم - أكان يردهم ؟ قالوا : لا : قال والله للمغفرة عند
الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق0
وإني
لادعوا الله اسأل عفوه واعلم أن الله
يعفو ويغفر
لئن
أعظم الناس الذنوب فإنها وان عظمت في
رحمة الله تصغر([9])
ووقف بعض
الخائفين بعرفات وقال: الهي الناس يتقربون إليك بالبدن وأنا أتقرب إليك بنفسي . ثم
خر ميتاً "([10])
وذكر ابن الجوزي رحمه الله عن يحيى بن كامل القرشي قال : اخبرني سفيان
الثوري قال سمعت أعرابياً وهو متعلق بعرفه وهو يقول " الهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد
خلقتني ضعيفا ؟ ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك فيَّ سابق وأمرك بي محيط ؟ أطعتك
بإذنك والمنة لك علي ،وعصيتك بعلمك والحجة لك ،فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي
وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني ، الهي لم أحسن حتى أعطيتني ، ولم أسيء
حتى قضيت علي ، اللهم أنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا
الله ولم نعصك في ابغض الأشياء إليك الشرك بك فاغفر لي ما بينهما اللهم سري إليك
مكشوف وأنا عليك ملهوف إذا وحشتني الغربة آنسني ذكرك وإذا أصيبت علي الهموم لجأت
إليك استجارة بك علما بأن أزمة الأمور بيدك وان مصدرها عن قضائك "([11])0
ووقف بعض الخائفين بعرفات وقال : الهي الناس
يتقربون إليك بالبدن وأنا أتقرب إليك بنفسي . ثم خر ميتاً "([12])
ضجت
خدودي من لظى عبرات لمـا وقفت عـلي ثري عرفات
وتيبست
شــــفتي وتــــاهــت أحرفي وجلاً وكادت تنطفي كلمات
لمـــــــا
ذكرت الموت في أهـواله وذكرت هول
النزع والسكرات
وذكرت
بالجمع الغفير مواقفا أخرى بيوم الحشر
والحسراتي
ورفعت
كفي والدموع كأنها سيل تدفق من ذرى
الثرواتي
ومضي
لهيب الخوف يحرق مهجتي والنفس تبكي سالف
الغدرات
يا رب
تبت إليك فقبل توبتي وجعل مكان
السيء الحسنات
فسمعت
من عمق الضمير منادياً دع ما مضي وقضي
وقم للآتي
واعلم
بأن الله أرحم راحم وسيدفع
الأحادي بالعشراتي
وأخيراً
نختم رحله الشوق والحنين بقول المولى سبحانه وتعالى
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
يقول ابن كثير – رحمه الله – ومضمون ما فسرته
هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعا
وقدرا من كونه مثابة للناس أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي
منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه
السلام في قوله " {فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] إلى أن قال {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]
"([13])
أقول قولي هذا وأستغفر
الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد :........................
لماذا الشوق والحنين؟
عشنا
مع رحلة الشوق والحنين إلى بلد الله الأمين ورأينا كيف أن الشوق قد بلغ بالمسلمين
كل مبلغ حتى أن بعضهم من شدة شوقه ما إن رأي البيت الحرام حتى فارق الحياة، بل أن
هناك من لا يمل من زيارته " فلا تشبع من زيارته القلوب ولا ترتحل الأنفس عنه
إلا وهي بذكره طروب ؟!
لا
يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود
إليها الطرف مشتاقا
ومن
الناس من بلغهم الله بيته الحرام، فذاقوا وارتشفوا وعرفوا واعترفوا فمهما يترددوا
إليه لا يبغوا عنه حولاً ولا يروا انهم قضوا منه وطراً إذا ذكروا بيت الله حنوا ،
وإذا تذكروا بعدهم عنه أنوا ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب محترفة ودموع
مستبقة أن يعيدهم إليه مرة بعد مرة وكرة بعد كرة 0
ومنهم
من فاته منه الدنو فهو يؤمه بقلبه في كل حين وآن ، ويولي إليه وجهه حيثما كان، قد
حرم الوصول إلى البيت ، وقلبه موصول برب البيت عاقته المعاذير ولم تساعده المقادير
فإذا أذَّن مؤذن الحج " حيَّ علي الرحيل " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع
حزنا ألا يجدوا ما ينفقون فأقاموا مأتم اللَّهف وأراقوا دموع الأسف0
ما
أصنع هكذا جري المقدور الجبر
لغيري وأنا المكسور
أسير
ذنب مقيدٌ مــأسور هل يمكن
أن يُبدَّل المسطور ؟([14])
إنها رحلة الطهارة التي تشتاق إليها الأنفس والأفئدة لتغسل عنها
الذنوب وتمحوا عنها العيوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله
صلي الله عليه وسلم " من حج فلم
يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "([15])
وعنه
أيضاً عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال " العمرة إلى العمرة كفارة لما
بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ([16])
يقول
الحافظ ابن حجر -رحمه الله – وقوله " رجع كيوم ولدته أمه " أي بغير ذنب
وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوي الشواهد لحديث العباس بن
مرداس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري([17])
ويقول
الإمام الدهلوي – رحمه الله- وقال عليه
السلام " تابعوا بين الحج والعمرة " أقول " تعظيم شعائر الله والخوض في لجة رحمة
الله يكفر الذنوب ويدخل الجنة ولما كان الحج المبرور والمتابعة بين الحج والعمرة
والإكثار منها نصاباً صالحاً لتعرض رحمته اثبت لهما ذلك ، وإنما شرط ترك الرفث
والفسق ليتحقق ذلك الخوض فإن من فعلهما أعرضت عنه الرحمة ولم تكمل في حقه "([18])
وعن
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان
الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب
إلا الجنة "([19]) من هذا الفضل والثواب جاء الفضل من
يقول
المباركفوري : قال الطيبي رحمه الله أي إذا اعتمرتم فحجوا وإذا حججتم فاعتمروا (
فإنهما ) أي الحج والإعتمار ( ينفيان الفقر ) أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر
بحصول غنى اليد والفقر الباطن بحصول غنى القلب ( والذنوب ) أي يمحوانها قيل المراد
بها الصغائر ولكن يأباه قوله ( كما ينفي الكير ) وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال
النار للتصفية ( خبث الحديد والذهب والفضة ) أي وسخها ( وليس للحجة المبرورة ) قيل
المراد بها الحج المقبول وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقال
القرطبي الأقوال في تفسيره متقاربة المعنى
وحاصلها
أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع مواقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل
كذا
قال السيوطي في التوشيح([20]
)
وقال
المحب الطبري: يجوز أن يراد التتابع المشار إليه بقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]
فيأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل وهذا ظاهر لفظ المتابعة وأن يراد اتباع أحدهما
الآخر ولو تخلل بينهما زمن بحيث يظهر مع ذلك الاهتمام بهما ويطلق عليه عرفا أنه
اتبعه ( فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ) إزالته للفقر كزيادة الصدقة للمال كذا قال
الطيبي
وقال
في المطامح : يحتمل كون ذلك لخصوصية علمها المصطفى صلى الله عليه وسلم وكونه إشارة
إلى أن الغنى الأعظم هو الغنى بطاعة الله ولا عطاء أعظم من مباهاة الله بالحاج
الملائكة ( كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ) مثل متابعتهما في إزالة
الذنوب بإزالة النار الخبث لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوية والغضبية
محتاج لرياضة تزيلها والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال والجوع والظمأ
واقتحام المهالك مفارقة الوطن والإخوان وغير ذلك ( وليس للحجة المبرورة ثواب إلا
الجنة ) أي لا يقتصر لصاحبها من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل
الجنة والمبرور المقبول أو الذي لا يشوبه إثم أو ما لا رياء فيه أو غير ذلك( [21])
الكريم الوهاب فاشتاقت النفوس إليه حالها كقول القائل :
أتيناكم
نخب السير خبَّاً ونحمل في حشايا
القلب حباً
نهيم
ببيتكم شوقاً ونسقي بدمع العين في
العرصات صباً
فهيّا
سـامحونا قد أسأنا وهيا فاغفروا يا
رب ذنبنـاً
تقرَّب
غيرنا لسواك جهلاً ونحن لقربكـم نزداد
قرباً([22])
وتشتاق إليه النفس له أمان من الفقر ومغفرة
للذنوب0
ولم لا تهفو إليه الأنفس وهو
رحلة الدخول في وفد الله – ذلك الوفد المبارك خصهم الله بالعطاء فعن جابر رضي الله
عنه- قال: قال النبي –صلي الله عليه وسلم
- " الحجاج والعمار وفد الله دعاهم
فأجابوه وسألوه فأعطاهم " ( [23])
وعن
ابن عمر رضي الله عنهما – قال : قال النبي -صلي الله عليه وسلم- " أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرم فأن
لك بكل وطأة تطأها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة وأما وقوفك
بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول : هؤلاء
عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف
لو رأوني فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً
غسلها الله عنك . وأما رميك الجمار فأنه مدخور لك وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة
تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك([24])
[1] =
كتاب صفة الصفوة ج2 ص931
[2] -
كتاب صفة الصفوة ج2 ص934
[3] -
كتاب صفة الصفوة ج2 ص934
[4] -
كتاب صفة الصفوة ج2 ص932،933
[5] -
أخرجه مسلم وال نسائي0
[6] -
أخرجه الترمذي (3596) في كتاب الدعوات باب دعاء يوم عرفة وقال الألباني في صحيح
الجامع (3374) حسن 0
[7] فيض القدير [ جزء 3 -
صفحة 471 ]
[8] -
لطائف المعارف لابن رجب ص477 0
[9] -
لطائف المعارف ص479 0
[10] لطائف المعارف ص478
[11] -
صفة الصفوة ج2 ص931
[12] -
لطائف المعارف ص478 0
[14] - مثير
الغرام إلى طيبة والبيت الحرام ص7-6
[15] -
أخرجه البخاري ومسلم
[16] -
أخرجه البخاري ومسلم
[17] -
فتح الباري ج3 ص447
[18] -
حجة الله البالغة ج2 ص103
[19] -
أخرجه الترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حيان 0
[20] - تحفة الأحوذي [ جزء 3 -
صفحة 454 ]
[21] - فيض القدير [ جزء 3 -
صفحة 225 ]
[22] -
مصارع العشاق ص47
[23] رواه البزار ورواته ثقاتوحسنه الألباني
الصحيحة ح 1820
[24] -)
أخرجه الطبراني في الكبير وابن في صحيحه وليزار وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم
1373 0
تعليقات
إرسال تعليق