تذكرة الأحباب بعشر صور من عبادة النبي الاواب.pdf
الشيخ السيد مراد
سلامة
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الحكيم العزيز
الغفار، القهار الذي لا تخفى معرفته على من نظر في بدائع مملكته بعين الاعتبار، القدوس
الصمد التعالي عن مشابه الأغيار، الغني عن جميع الموجودات فلا تحويه الجهات والأقطار،
الكبير الذي تحيرت العقول في وصف كبريائه فلا تحيط به الأفكار، الواحد الأحد المنفرد
بالخلق والاختيار، الحي العليم الذي تساوى في علمه الجهر والإسرار، السميع البصير الذي
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
واشهد إن لا اله إلا الله، وحده
لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا
محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيب
إن الصلاة على المختار إن ذكرت في مجلس فاح منه الطيب إذ نفحا
محمد أحمد المختار من مضر أزكى الخلائق جمعا أفصح الفصحا
صلى عليه إله العرش ثم على أهليه والصحب نعم السادة النصحا
وعلي اله وأصحابه ومن سار على نهجه
وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
أما بعد:.........إخوة
الإسلام حديثنا اليوم عن خير الأنام صلى الله عليه وسلم – لنقف مع عشر صور من
عبادته لربه ومولاه لنرى حال سيد الرجال مع الكبير المتعال لنشاهد عبادات متنوعة و
نشاهد قلبا خاشعا و لسانا لله ذاكرا و جسدا على البلاء صابرا لنرى العفو في اسمى صوره
و لنرى الإيثار كأنه سيل مدرار من أجمل الأزهار ............فأعيروني القلوب و
الأسماع
1- تلاوته القران- صلى الله عليه وسلم-
إخوة الإسلام هيا لنرى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم
يتدبر القرآن و يقف عند معانيه فيخشع قلبه الطاهر و تبكي عينه و يلين جلده من خشية ربه و مولاه عن عطاء بن أبي رباح رحمه
الله قال: "دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك
أن تزور، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا، قال: فقالت:
دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله، قال:
فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: ((يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة
لربي))، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام
يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالسًا، فلم يزل يبكي حتى بل
لحيته، ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذِنُه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا
رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون
عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿ إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]))[1]
2- خوف النبي صلى الله عليه وسلم :
وإذا كان الخوف
منبعثًا من المعرفة بالله تعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أشد الناس خشية له
سبحانه وتعالى، واعلم الخلق بالخالق جلا لجلاله
عن عائِشَةُ: صَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
شَيْئاً، فَرَخَّصَ (وفي روايةٍ: تَرَخَّصَ) فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ،
فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ
قال:"ما بالُ أقوامٍ يَتَنَزَّهُونَ عنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ؟! فَوَاللهِ
إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً". »-[2].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان
إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس إذا
رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته، عرفتُ في وجهك
الكراهية، قالت: فقال: «يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح،
وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا» [3]
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: خسفت الشمس،
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد، فصلى
بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: «هذه الآيات التي يرسل الله، لا
تكون لموت أحد، ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك،
فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره» [4].
إذا خاف الخليل وخاف موسى وآدم والمسيحُ وخاف نوحُ
ولـم يتشفعـوا للخلــق خـوفــاً فما لــي لا أخــاف ولا أنوحُ
كذاك من الحجارةِ هابطاتُ بخشيتهِ وأملاكٌ وروحُ
فهذا خوف من لم يعصِ قطعاً فكيف المسرفُ العاصي الجَموحُ
ولســتُ بقانـطٍ والله حسبـي ولا أغدو بـذاك ولا أروحُ
ولم يَفُت الهدى عبَّاد عجلٍ بتوبةِ ربهم وهو المنوحُ
أخاف وأرتجي أضعاف خوفي لأنَّ الله وهَّابٌ سَموحُ
عفوٌ قادرٌ ملكٌ غني ٌ رؤوفٌ واسعٌ مولىً صَفوحُ
يعافي عبده حينا ويعفو ومنه
يُرتجى التوبُ النصوحُ
3-استغفاره -صلى الله عليه وسلم-
لقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مُكثرًا من
الاستغفار، رغم ان الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ففي صحيح البخاري
عن أبي هريرةَ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إنِّي
لأستغفرُ الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ من سبعينَ مرَّةً".[5]
وعن الأغَرِّ المُزني، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إنِّي لأستغفرُ الله في اليومِ مائةَ مرَّةٍ". وفي لفظٍ: "يا
أيها الناسُ توبُوا إلى الله، فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مائةَ مرَّةٍ".
أخرجه مسلم. [6]
4-جوده-صلى الله عليه وسلم-
كمال سخاءه وكرمه: وهنا نقف مع كمال الكمال وجمال الجمال
وعطاء سيد الأسخياء – صلى الله عليه وسلم-:
تَعوّد بَسْط الكفِّ حتَّى لو أنـَّهُ ثناها
لِقَبْضٍ لم تجِبْه أَناملُهْ
تـراه إذا مـا جـئتَه مُتـهلِّلاً كأنَّك
تُعطيه الذي أنت سَائلُهْ
ولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ لجَادَ
بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ
هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته فلُجَّتُهُ
المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ "،
فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي
عَطَاءَ رَجُلٍ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ، وَإِنَّ كَانَ الرَّجُلَ لَيَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُمْسِي حَتَّى
يَكُونَ دِينُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ - أَوْ أَعَزَّ عَلَيْهِ - مِنَ الدُّنْيَا بِمَا
فِيهَا " ([7])
عَنْ يُونُسَ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ
اللهِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحِدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ
عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالِي وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ , إِلَّا شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ
"([8])
إنَّ الرَّسول
صلى الله عليه وسلم، يقدِّم بهذا النَّموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيَّما حينما
نلاحظ أنَّه كان في عطاءاته الفعليَّة، مطـبِّــقًا لهذه ال القوليَّة التي قالها،
فقد كانت سعادته ومسرَّته عظيمتين حينما كان يبذل كلَّ ما عنده مِن مال. ثمَّ إنَّه
يربِّي المسلمين بقوله وعمله على خُلُق حبِّ العطاء، إذ يريهم مِن نفسه أجمل للعطاء
وأكملها.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
5-صومه - صلى الله عليه وسلم-
أما عن صومه فإنه الصوام القوام الذي يصوم حتى يظن
الإنسان أنه لا يفطر و يفطر حتى يظن أنه لا يصوم إنه إمام الوسطية و إمام اليسر
صلى الله عليه وسلم - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا
صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْراً كَامِلاً قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ،
وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ القَائِلُ: لا وَالله لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى
يَقُولَ القَائِلُ: لا وَالله لا يَصُومُ. متفق عليه.[9]
عَنْ حُمَيْدٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى
نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ
مِنْهُ شَيْئًا+ وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا
رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ» تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو
خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ ,.[10]
أخرجه البخاري.
6-تهجده -صلى الله عليه وسلم-
قال الله تعالى: {وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَامًا مَحْمُودًا [79]} [الإسراء:79].
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ
الله كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ الله، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ
عَبْداً شَكُوراً». متفق عليه.[11]
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبقرةَ،
فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمِائَةِ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ. ثُمَّ مَضَى
حَتَّى بَلَغَ الْمِائَتَيْنِ. فَقُلْتُ يَرْكَعُ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى خَتَمَهَا،
فَقُلْتُ: يَرْكَعُ. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، فَكَانَ
رُكُوعُهُ مِثْلَ قِيَامِهِ، وَقَالَ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ"، ثُمَّ سَجَدَ وَكَانَ سُجُودُهُ مِثْلَ رُكُوعِهِ، فَقَالَ فِي
سُجُودَهُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى". وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ
رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ تَعَوَّذَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ
فِيهَا تَنْزِيهٌ لِلَّهِ سَبَّحَ.[12]
7-بكائه -صلى الله عليه وسلم-
عن عبد الله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله يصلي
وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء"، وفي رواية: "وفي صدره أزيز كأزيز
المرجل"[13].
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ،
فَقَالَ: «عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟» قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ
يَحْفِرُونَهُ. قَالَ: فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ،
فَجَثَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا
يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا
قَالَ: «أَيْ إِخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا؟»[14]
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((أن النبي
تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36] الآية،
وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: اللهم أُمتي أمتي، وبكى،
فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسلْهُ: ما يبكيك؟ فأتاه
جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره رسول الله بما قال، وهو أعلم، فقال
الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك)).[15]
8-صبره - صلى الله عليه وسلم-
إن الحديث عن
صبره عليه الصلاة والسلام، هو في حقيقة الأمر حديث عن حياته كلها ، وعن سيرته
بجميع تفاصيلها وأحداثها ، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صبر ومصابرة ، وجهاد
ومجاهدة ، ولم يزل عليه الصلاة والسلام في جهد دؤوب ، وعمل متواصل ، وصبرٍ لا
ينقطع ، منذ أن نزلت عليه أول آية ، وحتى آخر لحظة في حياته .
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى
الله عليه وآله وسلم يومًا، فقالت: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟)،
ومعلوم ما كان في أُحد من قتل الصحابة رضي الله عنهم واستشهادهم، وما كان أعظم من
ذلك، وهو ما أُصيب به عليه الصلاة والسلام في وجهه الشريف، حتى سال الدم منه، (هل
مر عليك يوم أشد من يوم أُحد؟)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد لقيت من قومك ما
لقيت)، يعني شيئًا عظيمًا، (وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على
ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي،
فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب - يعني الموضع المعروف اليوم بالطائف - قال:
فرفعت رأسي عليه الصلاة والسلام، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا بها
جبرائيل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث الله
إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليّ، ثم قال:
يا محمد، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين - يعني الجبلين العظيمين بمكة - فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا
يشرك به شيئًا)؛ رواه البخاري ومسلم.
أتقتلون رجلاً أن يقول ربي:
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا
لَهَا: مَا أَشَدَّ مَا رَأَيْتِ الْمُشْرِكِينَ بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَعَدُوا فِي
الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا يَقُولُ فِي آلِهَتِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا إِذَا
سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ صَدَقَهُمْ، فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا
فَقَالَ: «بَلَى» فَتَشَبَّثُوا بِهِ بِأَجْمَعِهِمْ فَأَتَى الصَّرِيخُ إِلَى
أَبِي بَكْرٍ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا، وَإِنَّ
لَهُ غَدَايِرَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّكُمْ، قَالَ: فَلَهَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ
فَجَعَلَ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَايِرِهِ إِلَّا جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ
يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ([16])
9-عفوه- صلى الله عليه وسلم-
العفو والتسامح ينبعان من قلب سليم وخلق كريم، لقد قالت
عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها فى خلق النبي صلى الله عليه وسلم «كان
خلقه القران» ، فهو يأخذ بهديه، ويتبع منهاجه من غير عوج، ولا التواء. قال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ } (الأعراف : 199)، واستمع إلى قوله تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت : 34).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ
غَلِيظُ الحَاشِيَةِ»، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً
شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: «فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ
شِدَّةِ جَبْذَتِهِ»، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي عِنْدَكَ، «فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ»([17]).وأعظم من ذلك موقفه مع أهل مكة، بعدما أُخرج منها وهي أحب البلاد إليه،
وجاء النصر من الله تعالى، وأعزه سبحانه بفتحها، قام فيهم قائلاً: ( ما تقولون أني
فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال: ( أقول كما قال أخي
يوسف ) : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو
أرحم الراحمين } (يوسف:92)، ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ([18])
قالوا: أتحبُّ
محــــمــّد فأجبتهم إني بحبِّ محمَّدٍ أتعبَّدُ
أحببتُ فيه
هناءتي وسعادتي ومفازتي من حرِّ نارٍ
تُوقَدُ
وشفاعةٌ تُهدى
لكلِ مُؤَمِّلٍ وتواجدي وسطَ النعيمِ
أُخَلَّدُ
وتفاخري أنَّي
نُسبْتُ لأمة يُعلِي مكانتَها
النبيُّ محمَّدُ
أقول قولي هذا واستغفر
الله العظيم لي و لكم إنه هو الغفور
الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد:
.........................
10-إيثار النبي صلى الله عليه وسلم: إخوة الإسلام: لقد
كان رسولنا صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة
الحسنة في كل عمل يحث عليه ويدعو إليه وهاك مشهد من مشاهد الإيثار مشهد ينبض
الإيثار.
عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً
جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ،
فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ،
قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا،
فَخَرَجَ إلينا وإنها إزاره، فحسنها فلان فقال: اكسينها، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ
الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا
يَرُدُّ، قَالَ: إني والله، ما سألته لألبسها، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ
كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كفنه ([19])
إيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام
المهاجرين والأنصار :
المشهد الثاني مشهده – صلى الله عليه وسلم - و قد ألم به
التعب و الإرهاق و ظهر على وجهه- الكريم- علامات الجوع فيذهب جبر – رضي الله عنه
ليعد له طعاما له و لكن النبي – صلى الله عليه وسلم - يأبي إلا أن يكل الجميع من
ذلك الطعام - عن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما - قال: «إِنَّا يَوْمَ
الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي
الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ. ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ،
وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ، أَوْ
أَهْيَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ، فَقُلْتُ
لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا
كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ،
فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ، وَطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي
الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ
أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ،
وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: كَمْ هُوَ. فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: كَثِيرٌ
طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لَا تَنْزِعِ الْبُرْمَةَ، وَلَا الْخُبْزَ مِنَ
التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ، فَقَالَ: قُومُوا. فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلُوا
وَلَا تَضَاغَطُوا. فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ،
وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى
أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَغْرِفُ حَتَّى
شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ
أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ» ([20])
[1] - سنده صحيح: أخرجه ابن حبان (620).
[2] - أخرجه البخاري (6101)
[3] - متفق عليه (خ 6092، م 899) واللفظ لمسلم.
[4] - متفق عليه (خ 1059، م 912).
[5] - البخاري في صحيحه ج5/ص2324 ح5948
[6] - -صحيح مسلم (4/ 2075) رقم 42 - (2702)
[7] - : أخرجه مسلم في الفضائل
[2312].
[8] - أخرجه : البخاري 8/118 ( 6445 ) ، ومسلم
3/74 ( 991 ) ( 31 ) .
[9] - صحيح البخاري:ج2/ص696 ح1870
[10] - أخرجه البخاري في التهجد (1141) باب: قيام
النبي -صلى الله عليه وسلم-.
[11] - صحيح البخاري:ج4/ص1830 ح4557
[12] - أخرجه ابن أبي شيبة 1/248، ومسلم (772) ، وابن
ماجه (1351)
[13] - سنده صحيح: أخرجه أحمد (4/ 25)، وأبو داود
(904)، والنسائي (1214)، أزيز: صوت، الرحى: الطاحون، المِرجل: قدر من نحاس أو حديد
يُطبَخ فيه
[14] - مسند أحمد:ج4/ص294 ح18624
[15] -أخرجه مسلم، (976).
[16] - أخرج أحمد 2/204، والبخاري (3678)
[17] -«صحيح البخاري» (8/ 24)
[18] - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 118).
السيرة النبوية لابن هشام 412/ 2.
[19] - رواه البخاري 3 / 113 في الجنائز، باب من
استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، وفي البيوع، باب ذكر
النساج، وفي اللباس، باب البرود والحبرة والشملة، وفي الأدب، باب حسن الخلق
والسخاء وما يكره من البخل، والنسائي 8 / 204 و 205 في الزينة، باب لبس البرود
[20] - أخرجه أحمد 3/ 300 (14260) و 3/ 301 (14269. والدارمي"
42 والبخاري" 4101
تعليقات
إرسال تعليق