أخذ الحذر والحيطة من أعداء الأمة.pdf



أخذ الحذر والحيطة من أعداء الأمة1 ([1 ])

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الاولى

اعلم علمني الله وإياك: أن اخذ الحذر والحيطة من الأمور التي اوجبها الله تعالى علينا في كتابه و حذرنا من إغفالها ................   لو أنك تسير في طريق وجاءك خبر أن في منعطف هذا الطريق عدو يريد قتلك أو سلب مالك ماذا أنت فاعل تجاه هذا الخبر وذلك العدو ؟

أكنت تتغافل عن ذلك العدو ولا تأخذ الحذر منه أم أنك ستأخذ العدة له وتكون على أتم استعداد لمهاجمته قبل أن يهاجمك ؟

إن إجابة العقلاء على ذلك السؤال تكون بالفعل قيل القول وأخذ الحذر والحيطة من ذلك العدو المتربص بهم ، فما بالك إذا كان الذي أخبر بذلك العليم الخبير- جل جلاله- و البشير النذير –صلى الله عليه وسلم – كما أوضحت في أسباب كتابة هذا الكتاب، والله تعالى أمرنا أن نأخذ الحذر والحيطة من اليهود والنصارى ومن شابههم فقال في محكم التنزيل وهو اصدق القائلين (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) ( النساء )

يقول العلامة السعدي –رحمه الله -يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله

ولهذا قال: { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } 

 ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: { وَإِنَّ مِنْكُمْ } أي: أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين أحدهما: قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين

والثاني: قوله في آخر الآية: { كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين  :صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد، وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد كما قال تعالى: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. { قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب وأما القعود فإنه وإن استراح قليلا فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته مايحصل للمجاهدين ثم قال: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي: نصر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة  2([2])

ويقول الشيخ سيد طنطاوي-رحمه الله- والمعنى : استعدوا - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، وكونوا على يقظة منهم ، وكونوا متأهبين للقائهم دائماً بالإِيمان القوى ، وبالسلاح الذي يفل سلاحهم هذا ، وللأستاذ الإِمام محمد عبده كلام حسن في هذا المعنى ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : " الحذر : الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو ، وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته ومعرفة أرضه وبلاده وفى أمثال العرب ( قتلت أرض جاهلها ) . ويدخل في الحذر والاستعداد معرفة الأسلحة وكيفية استعمالها فكل ذلك وغيره يدخل تحت الأمر بأخذ الحذر)  وقد كان النبي r وأصحابه عارفين بأرض عدوهم ، وكان للنبى r جواسيس يأتونه بأخبار مكة ، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد استعد لفتحها ، وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة ( حاربهم بمثل ما يحاربونك به : السيف بالسيف ، والرمح بالرمح ) . وهذه كلمة جليلة فالقول وعمل النبي r وأصحابه، كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته

فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } دعوة للمؤمنين فى كل زمان ومكان إلى حسن الاستعداد لمجابهة أعدائهم بشتى الأساليب وبمختلف الوسائل التي تجعل الأمة الإِسلامية يرهبها أعداؤها سواء أكانوا في داخلها أم في خارجه وقوله {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] تفريع على أخذ الحذر؛ لأنهم إذا أخذوا حذرهم ، عرفوا كيف يتخيرون أسلوب القتال المناسب لحال أعدائهم وقوله { فانفروا } من النفر وهو الخروج إلى عمل من الأعمال بسرعة . ومنه قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } والمراد بقوله { فانفروا } هنا : أي اخرجوا إلى قتال أعدائكم بهمة ونشاط ويقال : نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدوهم واستنفر الإِمام الناس إذا حضهم على جهاد أعدائهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " والنفير . اسم للقوم الذين ينفرون .

وقوله { ثُبَاتٍ } جمع ثبة وهى الجماعة والعصبة من الفرسان . مأخوذة من ثبا يثبوا أى اجتمع .

والمعنى . عليكم - أيها المؤمنون - أن تكونوا دائما على استعداد للقاء أعدائكم ، ولا تغفلوا عن كيدهم . فإذا ما حان الوقت لقتالهم فاخرجوا إليهم مسرعين جماعة في إثر جماعة؛ أو فاخرجوا إليهم مجتمعين في جيش واحد ، فإن قتالكم لأعداكم أحيانا يتطلب خروجكم فرقة بعد فرقة ، وأحيانا يتطلب خروجكم مجتمعين ، فاسلكوا في قتالكم لأعدائكم الطريقة المناسبة لدحرهم والتغلب عليهم .

وقوله { ثُبَاتٍ } منصوب على الحال من الضمير في قوله { انفروا } وكذلك قوله { جَمِيعاً } أي انفروا متفرقين أو انفروا مجتمعين أتى ، ليكن نفوركم على حسب ما تقتضيه طبيعة المعركة3([3])

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء: 101-102]  

يقول الشيخ القطان: إذا كنت أيها الرسول في جماعتك وقامت صلاة الجماعة فلا تنسوا الحذر من الأعداء دع طائفة منهم تصلي معك فيما تقف الطائفةُ الأخرى قبالة العدو يحرسون إخوانهم المصلّين . وعلى المصلّين أن يكونوا يقظين ويحملوا أسلحتهم ولا يتركوها وقت الصلاة، يفعلون ذلك استعداداً لمواجة وحيطة من الغدر

{ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } إذا سجدوا المصلّون معك فليكنْ الّذين يحرسونكم من خلفكم ، لأن الساجد أحوجُ ما يكون للحراسة حين السجود . فإذا انقضت الركعة الأولى تقوم الجماعة التي صلّت وتقف مكان الجماعة الحارسة، وعند ذلك تأتي الجماعة الأخيرة فتصلي معك ركعة كذلك . وهنا يكون الإمام قد أتم صلاته فيسلّم وعندئذ تأتي الطائفة الأولى فتصلّي الركعة الثانية وتسلّم، بينما تحرسها الجماعة الثانية ، ثم تجيء الجماعة الثانية فتصلّي الركعة الثانية وتسلم . بذلك يكون الجميع قد صلّوا بإمامة الرسول. وهكذا يفعل كل إمام وقائد عند الخطر

واحذروا أيها المؤمنون فإن أعداءكم يتمنّون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم أثناء صلاتكم، فيحملوا عليكم حملة واحدة علّهم يصيبون منكم غرّة فيقتُلون وينهبون

ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطرٍ أو مرض من جراح ، لكن عليكم في جميع الأحوال ألا تغفلوا . إن عدوّكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم

(إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ) بما هداكم إليه من أسباب النصر ، بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة ،

وقد قال بالصلاة على الصفة أوردناها عدد كبير من فقهاء الصحابة منهم: علي، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمرو، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري. ومن فقهاء الأمصار: مالك، والشافعي وغيرهما. وفي كتب الفقه خلاف كبير في صفة هذه الصلاة لا مجال لذكره هنا4

ولنأخذ مثالا من السيرة المطهرة على الحذر والحيطة من العدو  فها هو رسول الله r في حادث الهجرة يأخذ بالأسباب ولا يتواكل لان الكون مبنى على سنن ونواميس لابد لمن أراد التمكين أن يأخذ بها ، فتعالى أخي لنشاهد هذا المشهد الرائع من سيرة الرسول r

أولاً: التوقيت المناسب للخروج: ‏

غادر رسول الله  r بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر وهذا مما يشير إلى التخطيط الدقيق واختيار الوقت المناسب.. فالليل ­كما هو معلوم­ ستار آمن، يمكن التحرك فيه بكثير من الاطمئنان، مما يقلل من احتمالات رؤيتهما. هذا إلى جانب أن قيادة قريش كانت في هذا الوقت متجمعة حول بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم معتقدة أن النبي r بداخله، فكل تفكيرها وتدبيرها، كان مركزًا على هذا المكان، دون سواه، مما سهل مهمة الخروج لركب الهجرة في مثل هذا الوقت دون أن تعترضه عيون قريش، التي باتت ترقب سيدنا عليًا رضي الله عنه، ظنًا منها أنه النبي r.‏

وكون هذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشًا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام عليّ رضي الله عنه عن فراش رسول الله r، وهذا ما حدث فعلاً. يقول ابن إسحاق : (فلم يبرحوا حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش) وبالتالي تكون الفرصة قد فاتت على قريش، وأن رسول الله r وصاحبه قد وصلا إلى الغار بسلام.‏

أما خروجهم من الباب الخلفي، فهو من باب الاحتياط إذ هناك احتمال أن يكون بيت أبي بكر رضي الله عنه مراقبًا، وهو احتمال كبير للعلاقة الحميمة التي كانت تربط أبا بكر بالنبي صلى الله عليه و سلم، فإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان قريب، فستكون لباب البيت بالذات، يُرصد من خلاله الداخلون والخارجون. وفي الخروج من مخرج سري، بعيد عن المراقبة، مراعاة للمحافظة الدائمة على السرية، ووضع الاحتمالات الكثيرة احتياطًا لتخطيط العدو ومراقبته‏

ثانيًا: الخروج إلى الغار سيرًا على الأقدام: ‏

لقد خرج رسول الله r  وصاحبه أبو بكر من بيت الصديق سيرًا على الأقدام، حتى دخلا الغار، فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله ،وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفــه لتستوضــح أمــره، بعكــس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول r، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة.‏

ثالثًا: التمويه في الخروج إلى الغار: يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري: (ولما كان النبي r يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور) ‏

‏ ثانيًا: التجسس ورصد تحركات قيادة قريش: ‏

كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل لها تخطيطهم، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها ( .. لذا أمر سيدنا أبو كر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر).. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام، يقول ابن حبان: (...يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرًا يُكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام)

تتضح من النص عدة أمور لها أهميتها هنا : ‏الصفات التي يمتاز بها عبد الله، فهو ثقف، أي حاذق فَطِن، ولقن، أي سريع الفهم، وهذه من السمات المطلوب توفرها فيمَن يقوم بمثل هذه المهمة فالذكاء يساعده على حسن التصرف حيال المواقف الحرجة، التي قد تصادفه إبان القيام بمهمته، كما يساعده في استخدام الوسيلة المثلى في الحصول على المعلومة دون زيادة أو نقص، مما يجعل المعلومة التي يأتي بها تمتاز بقدر كبير من الصحة.‏ ذهابه إليهم ليلاً سرًا، وعودته عند السحر، يبعده عن خطر مراقبة قيادة قريش، لأن الظلام ­كما هو معلوم­ ساتر مناسب لمن يقوم بمثل هذه المهمة الحساسة، فدخول مكة سحرًا، يبعد عنه شبهة الاتصال بالنبي r ، فيصبح وكأنه بائت بمكة لا بالغار، وهذا قمة في الحيطة والحذر ودقة التخطيط، والمعلومات التي كان يأتي بها تجعل الرسول r وصاحبه على دراية تامة بما تفعله وستفعله قريش، الأمر الذي يجعل تحرك الركب من الغار مبنيًا على الحقائق الصحيحة لا على الظن والحدس.‏

ثالثـًا: إعفــاء الأثــر: ‏لابد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشًا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هي الأخرى تأتي يوميًا إلى الغار لتحضير الطعام وحتى يستبعد هذا الاحتمال كان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر(ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تُعد أنسب وسيلة، لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يُثير شكًا ولا ريبة.‏

رابعًا: الإمداد بالتموين في الغار: ‏

إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز، لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد الطعام تعتبر قرينة قوية، ربما قادت قريش إلى الغار، فالنار ينبعث منها الدخان نهارًا، والضوء ليلاً، وهذا يشكل خطورة كبيرة، وبخاصة في ذلك الزمان الذي يمتاز فيه العرب بدقة الملاحظة، لذا نجد أن طعامهما كان يأتيهما معدًا جاهزًا من بيت أبي بكر الصديق، تحضره أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.. يقول ابن إسحاق : (وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما). كما أن عامر بن فُهَيْرَة كان يحلب لهما اللبن من غنم أبي بكر رضي الله عنه.. تقول عائشة رضي الله عنها : (...ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَةً من غنمٍ، فَيُريحُها عليهما، حين تَذْهَبُ ساعة من العِشَاءِ، فيبيتَانِ في رِسْلٍ ­وهو لبنُ مِنْحَتِهِما وَرَضِيفِهِما­) ‏

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم

الخطبة الثانية

أما بعد: ..........................................

خامسًا: الإقامة في الغار ثلاثة أيام : ‏

قال ابن الأثير : (فأقاما في الغار ثلاثًا) (وهذا تصرف أمني اقتضته ظروف الزمان، فالخروج إلى أي مكان في الأيام الأولى يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو، كما أن المدة الزمنية هذه، ربما كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر، التي تشير إلى خفة الطلب عليهما بعد هذه الأيام الثلاثة، كما أن الاستمرار أكثر من ذلك قد يلفت النظر من قِبَل قيادة قريش، حين يتكرر المرور عليهما والذهاب إليهما، من قِبَل أسماء وعبد الله وعامر بن فهيرة أضف إلى ذلك أن هذه المدة تعد كافية لتدرك قريش أن محمدًا r قد أفلت منهم، وأنها كافية لابتعاده عنهم مسافة تمكنه من الوصول إلى مأمن، أو الالتحاق بقبيلة أخرى، فيدب اليأس في نفوسهم، ويتراخون عن مطاردته، وبالتالي تسنح الفرصة للإفلات منهم

 ( 1 ) الحذر أثناء السير على طريق الهجرة :لصاحب السير على طريق الهجرة، العديدُ من تدابير الحذر والحيطة، ومن ذلك : ‏

أولاً: التمويه في التحرك من الغار: ‏

أول ما سلك بهم عبد الله بن أريقط، بعد الخروج من الغار، أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحـــد إلا نـادرًا ومــا ذلك إلا إمعانًا في التمويه، ومزيدًا من الحيطة والحذر.‏

ثانيًا: السرعة في السير عقب الخروج من الغار: ‏

الظروف التي تم فيها التحرك من الغار، كانت تتطلب الإسراع في السير، وقطع المسافة بين مكة والمدينة في أقصر زمن ممكن، فعيون قريش منتشرة، والمطاردة لم تنته بعد، لذا أسرع النبي صلى الله عليه و سلم عقب خروجه من الغار، واستحث رواحلهم لقطع أكبر مسافة ممكنة في أقل زمن ممكن.. روى البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال : (أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عندها)

فالسير المتواصل ليوم وليلة، يباعد بين ركب الهجرة ومكة، مما يزيد من فرص نجاح الخطة، كما أن الليل يعد من أنسب الأوقات للسفر في الصحراء، إضافة إلى كونه ساترًا يخفي ركب الهجرة المبارك.‏

ثالثًا: حادثة سراقة وتدخل العناية الإلهية : ‏

بعد كل التحوطات والتخطيط الدقيق المحكم، تمكنت قريش من تلقي معلومة تفيد أن ركب الهجرة يجد في السير تجاه المدينة بطريق الساحل المهجور. قال سراقة: (فبينما أنا جالسٌ في مجلس من مجالس قومي بني مُدْلِج، أقبل رجلٌ منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة! إنِّي رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالساحل، أُرَاهَا محمدًا وأصحابه. قال سُراقة : فعرفتُ أنهم هم، فقلتُ له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انْطَلَقُوا بأعْيُننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعةً، ثم قمتُ فدخلتُ، فأمرتُ جاريتي أن تَخْرُجَ بفرسي وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عليَّ، وأخذتُ رُمْحي فخرجتُ به من ظهر البيت، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخفضتُ عَاليَهُ، حتى أتيتُ فرسي فرَكبتُها، فرفعتُها تُقَرِّبُ بِي حتى دنوتُ منهم، فعثرت بي فرسي فخررتُ عنها، فقمتُ فأهويت يدي إلى كِنانتي فاستخرجتُ منها الأزلام، فاستقسمتُ بها أضرُّهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبتُ فرسي ­وعصيت الأزلام­ تُقَرِّبُ بـــي حتــى إذا سمعــتُ قـــراءةَ رســــول الله r ­وهـــو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات­ ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررتُ عنها، ثم زجرتُها فنهضتْ، فلم تَكَدْ تُخْرِجُ يديها، فلما استوت قائمةً إذ لأثر يديها غُبار ساطع في السماء مِثْلُ الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكرهُ، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبس عنهم، أن سيظهرُ أمرُ رسولِ الله r، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الديةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يريدُ الناسُ بهم، وعرضتُ عليهم الــزادَ والمتــاع، فلم يــرزآني، ولم يســألاني، إلا أن قال : (أَخْفِ عَنَّا)، فسألتُه أن يكتب لي كتابَ أمن، فأمر عامر ابن فُهَيْرة، فكتب في رُقعةٍ من أَديم، ثم مضى رسول الله r )

وهنا تبرز عدة جوانب، منها: ‏

ــ الحس الأمني لسراقة، الذي ظهر من خلال رده على الرجل، موهمًا إياه أن هذا الركب ليس هو محمدًا وأصحابه، إنما هم فلان وفلان، وبالتالي فوت الفرصة على الرجل صاحب الخبر وعلى الحاضرين. وزيادة في إحكام خطته لم يذهب سراقة من فوره، وإنما مكث ساعة في المجلس حتى لا يثير شك الحضور.. ولم يكتف بذلك، بل زاد في الاحتياط الأمني، حيث خرج من الباب الخلفي لبيته، وأمر بحبس فرسه على مسافة من بيته، حتى لا يراه أحد وهو يركب الفرس أمام بيته، فيفسد عليه خطته، وبالتالي قد يخسر الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد r وصاحبه.. ومن هنا تظهر خطورة هذا الرجل الذي يجمع مع هذا الحس الأمني، القدرة العالية على تتبع الأثر، بل هو الذي اعتمدت عليه قريش في اقتفاء أثر الرسول  r وأصحابه، حتى وصل إلى الغار.. وشخص بهذه المواصفات، كان يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على ركب الهجرة المبارك، خاصة وأنه حاول استغلال تلك الصفات حتى كان قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بركب النبوة، ولكن تدخلت العناية الإلهية، فحالت بينه وبين النيل من الركب المأمون.‏

كما تظهر أيضًا مدى حنكة وحكمة المصطفى r في استغلال عدوه كي يصبح عونًا له في صد الطلب عنهما، وذلك من قوله لسراقة : (أَخْفِ عَنَّا)، فرجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما هاهنا.. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما 

الدعاء..............................................

 



[1] -هذه الخطبة مستلة من كتابي فكر المؤامرة عقيدة و حقيقة لا خيال

([2]) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 186

([3]) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 995

([4]) -) تفسير القطان - (ج 1 / ص 333

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf