نبي الله داود أنموذجا لبناء قوة الأمم.pdf
نبي الله داود أنموذجا لبناء قوة الأمم
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
✍عناصر الخطبة:
أولا: نسبه عليه السلام وصفته.
ثانيا: قوة داود عليه السلام في
العبادة.
ثالثا: قوة نبي الله داود – عليه السلام-العلمية.
رابعا قوة نبي الله -عليه السلام في
الصناعية.
خامسا: قوة نبي الله داود -عليه السلام
-وشجاعته في الجهاد في سبيل الله.
سادسا: قوة الملك بإقامة العدل والفصل
في الخصومات.
سابعا: موت نبي الله داود عليه السلام.
أما بعد : معاشر الموحدين حياكم الله
تعالى وبياكم حديثنا في هذا اليوم الطيب المبارك عن أنموذج من نماذج القوة التي
ذكرها الله تعالى في كتاب أنموذجا اجتمعت فيه جميع مقومات القوة التي تبنى عليها الأمم
و تنهض عليها الشعوب ،ذكره الله تعالى في كتابه ،و ذكرنا في غير موضع بقصته ،و بما
وهبه الله تعالى له .....حديثنا عن{نبي الله داود أنموذجا لبناء قوة الأمم} فمن هو
داود عليه السلام ؟وما هي صفاته؟ وما هي مقومات القوة عنده؟ أعيروني القلوب والأسماع
..........................
✍أولا: نسبه عليه السلام وصفته:
إخوة الإسلام: اعلموا أن نسب سيد داود
عليه السلام يعود إلى الخليل إبراهيم فهو داود بن إيشا بن عويد بن باعز بن سلمون
بن نحشون بن عويناذب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم الخليل.
قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم،
عن وهب بن منبه، كان داود، عليه السلام، قصيرا، أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر
القلب نقيه.
✍ثانيا: قوة داود عليه السلام في العبادة:
أيها الأحبة
الفضلاء، إن نبي الله داود عليه السلام لم يُلهه ملكه وحكمه عن الإكثار من عبادة
ربه تبارك وتعالى، فقد كانت روحُه المتألقة في سماء الطاعة تزداد رقيًا وصعوداً
على أجنحة العبادة ومعارج الخلوة بربه سبحانه وتعالى؛ ولذلك كان ذا عبادة عظيمة،
وتزلّف كثير؛ ولهذا أثنى عليه الله تعالى بكثرة التوبة والرجوع إليه، فقال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا
الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
لقد منحه الله
القوة في الذكر و العبادة ولابد أن تعلم طاعتك من فضل الله عليك فتوبتك من توبة
الله عليك {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا
إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ } [التوبة: 118]} [التوبة: 117-118]
فهو الذي يمدك
بالهداية التوفيق ومتى رضي عنك فتح لك باب الطاعة والقبول فمن ذاق عرف ومن عرف
اغترف وهكذا كان بي الله داود عليه السلام منحه الله الهمة العالية والقوة في
العبادة والطاعة
وأثنى عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الصيام والصلاة، وأخبر أن خير الصلاة النافلة
في الليل صلاتُه، وخير الصيام المستحب صيامه عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَحَبُّ
الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ
صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَهُ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ
سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا " ([1]).
عَنْ عَبْدِ
اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "ألَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ، أَوْ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ:
لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ؟ " قَالَ: أَحْسَبُهُ
قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَقُمْ، وَنَمْ، وَأَفْطِرْ،
وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ
الدَّهْرِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، حَتَّى قُلْتُ:
إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ
يَوْمًا، وَهُوَ أَعْدَلُ الصَّوْمِ، وَهُوَ صَوْمُ دَاوُدَ"، قَالَ:
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"لَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ". ([2]).
فعن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خُفِّف على داود عليه السلام
القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه) ([3]).
والمراد بالقرآن هنا: التوراة أو الزبور، وقرآن كل نبي يطلق علي كتابه الذي أُوحِي
إليه، وقيل: المراد بالقرآن: القراءة ([4]).
وعَنْ أَبِى
الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ مِنْ
دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ
يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ
أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ». قَالَ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ
عَنْهُ قَالَ «كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ» .. [الترمذي] ([5]).
✍ثالثا: قوة نبي الله داود العلمية :
إخوة الإيمان:
-اعلموا بارك الله فيكم-: أن من القوة التي تبنى عليه الأمم القوة العلمية فبالعلم
ترقى الأمم وبالعلم تسود وبالعلم تهاب .... بالجملة فإن التخلف العلمي
يؤدي إلى فشو الجهل، وتخلف الأوطان، وفساد البلدان؛ لأن الجهل يمكنه أن يهدم أي
بناء مهما كان، وأن يفسد جميع الأوطان والبلدان؛ كما قيل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له .. .. والجهل
يهدم بيت العز والشرف
والمتأمل عباد
الله في قصة نبي الله تعالى داود عليه السلام أن الله وهبه القوة العلمية التي بها
أسس مملكته وقامت عليها دولته، قال تعالى: {وَعَلَّمَهُ
مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]، وقال: {وَلَقَدْ
آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15].
وهذا العلم
يشمل العلم بدين الله، والعلم بتدبير أمر الملك، والعلمَ بمنطق الطير، والعلم
بمعرفة تسبيح الجبال معه، والعلم بصناعة الدروع الحصينة الخفيفة على حاملها، قال
تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، وقال: {إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} {وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18 -19].
✍رابعا: قوة نبي الله داود –عليه السلام -في الصناعية:
معاشر الموحدين : إن القوة العلمية و الثورة الصناعية التي منحها الله
تعالى لداود عليه السلام تتمثل في مهنته التي علّمها الله تعالى إياها مهنةً
عسكرية تنفع الناس وهي: نسجُ الدروع وبيعها، وقد أحسنَ صناعتها وإتقانها بتعليم
الله له، فكانت دروعه دقيقة وغير ثقيلة على لابسها، وإنما هي أخف محملاً، وأتم
وقاية، قال تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ
لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]،
وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} {أَنِ اعْمَلْ
سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10 - 11].
قال قتادة
رحمه الله: "أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها
وحلّقها" (1).
قد جعل الله
سبحانه وتعالى الحديد في يد داوُد عليه السلام كالطِّين المبلول؛ ليَتحكَّم به،
ويُشكِّله كيفما شاء، دون ضَرْبه، أو تعريضه للنار، أمّا ما رُوِي عن سبب صناعة
داوُد عليه السلام للدروع، فهو أنّه قد خرج يوماً مُتنكِّراً؛ ليسأل في قومه عن
سيرته، وعندها ظَهر له جبريل -عليه السلام- على هيئة رجل، فسأله عن نَفسِه، فقال
له إنّه نِعم الرجل، إلّا أنّ هناك صِفة عليه أن يُبدِّلها، وهي أنّه يأكل من بيت
مال المسلمين، والأَولى به أن يأكل من عَرَقه، وصُنْعه، وعندها سأل داوُد -عليه
السلام- الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعل له صَنْعة يقتاتُ منها، وكانت هذه الصَّنْعة هي
صناعة الدروع من الحديد.
قال الحسن
البصري ، وقتادة ، والأعمش : كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده ، لا
يحتاج إلى نار ولا مطرقة . قال قتادة : فكان أول من عمل الدروع من زرد ،
✍خامسا: قوة نبي الله داود -عليه السلام -وشجاعته في الجهاد في سبيل
الله:
معاشر الموحدين : لقد كان نبي الله داود عليه السلام أحد جنود طالوت و هو أول
ملك من ملوك بني إسرائيل و كان داود وقتها صغير العمر و لكنه كان يتمتع بقوة بدنية
كبير و ذكاء متقدا و كان جميع بني قومه يشهدون له بحسن التدبير و سعة الحيلة فكان
يخرج مع جيش طالوت في المعارك و يظهر فيها من البسالة و الإقدام ما يجلب له
التقدير و الاحترام و هكذا أتقن الشاب الصغير تعلم فنون القتال و إدارة أمور
المملكة .....
✍شجاعة داود عليه السلام
وكان جالوت
ملكًا قويًا جبارًا وقائدًا مخوفًا، وعندما تقابل الجيشان في الميدان نادى جالوت
بأعلى صوته: هل من مبارز؟ فلم يخرج من بنى إسرائيل أحد حتى خرج "داوود"
من بين الصفوف وتصدى له، وكان ماهرًا في رمي المقلاع، وكان معه خمسة أحجار، فرماه
بالحجارة بمقلاعه فوقعت بين عينيه فقتلته، حيث أراد سبحانه وتعالي أن يجعل مصرع
هذا الجبار (جالوت) علي يد هذا الفتى الصغير، فقال تعالى: "وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ".
قال ابن كثير:
فيه دلالة على شجاعة داوود عليه السلام، برغم صِغر سنه، أنه قتل جالوت قتلاً أذال
الله تعالى به جنده وكسر جيشه، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها قائد الجيش، فتغنم بسبب
ذلك الأموال الجزيلة، ويصبح الأبطال والشجعان والأقران أسرى، وتعلو كلمة الإيمان
على الأوثان، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.
ورد عن السدي:
أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكرًا، وسمع داودُ
طالوتَ وهو يحرض بني إسرائيل على القتال وقتلِ جالوت وجنوده، ويعد بأن من يقتل
جالوت سيزوجه من ابنته ويشركه في ملكه، وكان داود يرمي بالمقلاع رميًا عظيمًا،
وبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني، فإنك بي تقتل جالوت، فأخذه،
ثم حجر آخر ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته، فلما تواجه الصفان برز جالوت
ودعا إلى المبارزة، فتقدم إليه داود، فقال جالوت: ارجع؛ فإني أكره قتلك، فقال
داود: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في المقلاع، ثم أدارها،
فصارت حجرًا واحدًا، ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه، وفر جيشه منهزمًا، فوفى له طالوت
وزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه.
(وقتل داود
جالوت) وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت وكان رجلا قصيرا مسقاما
مصفارا أصغر أزرق وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان قتل
جالوت ...... فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب فلما نهض في
طريقه مر بحجر فناداه: يا داود خذني فبي تقتل جالوت ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها
وجعلها في مخلاته وسار فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت: من
يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود فقال: أنا أبرز إليه
وأقتله فازدراه طالوت حين رآه لصغر سنه وقصره فرده و كان داود أزرق قصيرا. ثم نادى
ثانية وثالثة فخرج داود فقال طالوت له: هل جربت نفسك بشيء؟ قال: نعم؛ قال: بماذا؟
قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده.
قال طالوت:
الذئب ضعيف هل جربت نفسك في غيره؟ قال: نعم دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت
بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد؟ قال: لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي
إلا على من يقتل جالوت فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت: فاركب فرسي
وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس: جبن الفتى! فقال داود: إن الله إن
لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ولكني أحب أن أقاتله
على عادتي. قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ
مقلاعه وخرج إلى جالوت وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل فيما ذكر
الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إلي!. قال: نعم؛ قال: هكذا كما
تخرج إلى الكلب! قال: نعم وأنت أهون. قال: لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم
تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به فأدخل داود يده إلى الحجارة فروي
أنها التأمت فصارت حجرا واحدا فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه
فأصاب به رأس جالوت فقتله وحز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت
فكانت الهزيمة.
الخطبة الثانية
✍سادسا: قوة الملك بإقامة العدل والفصل في الخصومات،
جاء تكليف نبي
الله داود عليه السلام بوظيفة الخِلافة في الأرض، وإمارة الناس وقيادتهم بأمر إلهي
مباشر؛ قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]، وفي الآية أوامر عدة جليَّة لداود عليه السلام
عليه الالتزام بها، وهي:
1-أنَّ الأمر
الإلهي يَقضي بأن يكون داود عليه السلام خليفة في الأرض.
2-عليه أن
يَحكم بين الناس بالحق، والقائد يَجِدُ الحق حيث أمر ونهى الله جل جلاله.
3-عدم اتباع
هوى النَّفس؛ لأن اتِّباع الهوى يضل القائد عن سبيل الله جل جلاله؛ بل من الممكن
أن يتحول هوى النفس إلى إلهٍ يَعبده القائد من دون الله جل جلاله؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
وكان نبي الله
تعالى الله داود عليه السلام ملكا عادلا لا يظلم أحدا من رعيته و كان متواضع و لد
ذكر الله تعالى لنا في القران الكريم و سنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم طرفا
من حكمه هو وابنه سليمان عليهما السلام :
فقد جاء في
الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ
إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ
أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى
دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ
عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ
بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى
بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ
بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةَ »..([6])
قال العلماء:
يحتمل أن داود -عليه السلام- قضى به للكبرى؛ لشبه رآه فيها، أو أنه كان في شريعته
الترجيح بالكبير، أو لكونه كان في يدها، وكان ذلك مرجحًا في شرعه, وأما سليمان
فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه؛
ليعرف من يشق عليها قطعُه فتكون هي أمَّه، فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست
أمه،فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة، وإنما
أراد اختبار شفقتهما؛ لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها، ولعله استقر
الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى، فحكم للصغرى بالإقرار لا بمجرد الشفقة المذكورة.
وقَّافٌ عند
الحق: ولأنَّ القائد هو القدوة لمن معه، فلا بدَّ له مِن أن يتَّصف بصفة الرجوع
إلى الحق أينما كان، ومتى ما كان، فقد تراجع النبي داود عليه السلام عن موقفه ما
أنْ عرَف أنه لم يحكم على مراد الله - جلَّ جلاله - في الحكم بين الشخصين
المختصمين في قضية النَّعجة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 23، 24].
كما تراجَعَ
عليه السلام عن حكمِه بين صاحب النِّعاج وصاحب مزرعة العِنَب، وما يَلفت النظر في
هذه القضية أنَّ مَن صحَّح للملك داود عليه السلام هو ولده سليمان عليه السلام؛
قال تعالى: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78،
79]، ولقد تراجع داود عليه السلام وعاد إلى الحق ووقَف عنده، ولم يَستنكف مِن أن مَن
بيَّن له الخطأَ ولده الذي جاء من صلبِه.
✍سابعا: موت نبي الله داود عليه السلام:
أمة الإسلام بعد
حياة مليئة بالطاعة و العبادة و الجهاد في سبيل الله تعالى قامت على القوة الروحية
و القوة البدنية و القوة العسكرية و القوة الصناعية حان للفارس أن يترجل عن فرسله
و أن يفارق الحياة الى الحياة الأبدية .....لقد عاش نبي الله داود عليه السلام
مائة سنة كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ
فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ:
رَحِمَكَ اللَّهُ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ المَلَائِكَةِ، إِلَى مَلَإٍ
مِنْهُمْ جُلُوسٍ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ
تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ، بَيْنَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ وَيَدَاهُ
مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا
يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ
ذُرِّيَّتُكَ، فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا
فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ
هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ قَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً. قَالَ: يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمْرِهِ. قَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ.
قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. ... ) ([7]).
وقد كانت قصة
موته عليه السلام عبرة و عظة لكل مسلم ومسلمة كما جاء عند الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَانَ دَاوُدُ
النَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ،
فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ، قَالَ: " فَخَرَجَ
ذَاتَ يَوْمٍ وَأُغلقَتِ الدَّارُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى
الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي
الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ الدَّارَ، وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ؟
وَاللهِ لَنُفْتَضَحَنَّ بِدَاوُدَ. فَجَاءَ دَاوُدُ، فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ
وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي لَا
أَهَابُ الْمُلُوكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنِّي الْحُجَّابُ (1). فَقَالَ دَاوُدُ:
أَنْتَ وَاللهِ إِذَنْ مَلَكُ الْمَوْتِ، مَرْحَبًا بِأَمْرِ اللهِ. فَرَمَلَ
دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ قُبِضَتْ رُوحُهُ حَتَّى فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ،
وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى
دَاوُدَ، فَأَظَلَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ،
فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا " ([8]).
هذا وصلوا
وسلموا على خير البشر ...
[1] - وأخرجه الحميدي (589)، وعبد الرزاق (7864)،
والدارمي 2/ 20، والبخاري (1131) و (3420)، ومسلم (1159) (189)،
[2] - أخرجه البخاري (1976) و (3418)، ومسلم
(1159) (181)،
[3] - أخرجه الترمذي (5/368، رقم 3235) وقال: حسن
صحيح. والطبراني (20/109، رقم 216) ،
[4] -فتح الباري، لابن حجر (6/ 455).
[5] -سنن الترمذي (3828) حسن
[6] - مسلم: (3/ 1344) (30) كتاب الأقضية (10) باب بيان اختلاف المجتهدين -
رقم (20).
[7] - أخرجه الترمذى (5/453، رقم 3368) وقال: حسن
غريب. والحاكم (1/132، رقم 214) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (10/147، رقم
20307) .
[8] - المسند 15/ 254 (9432). قال الهيثمي في
المجمع 8/ 209: المطلّب وثّقه أبو زرعة وغيره، وبقيّة رجاله رجال الصحيح.
تعليقات
إرسال تعليق