خطبة تذكرة الأنام بعشر مسائل تتعلق بالمال العام.pdf



تذكرة الأنام بعشر مسائل تتعلق بالمال العام

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

أما بعد:.....................إخوة الإسلام: سنتكلم في ذلك اليوم الطيب المبارك عن عشر مسائل تتعلق بالمال العام لأن كثير منا يجهل تلك المسائل و ربما يتساهل فيها.... فأعيروني القلوب والأسماع

المسألة الأولى تعريف المال العام:

 إن سألت أخي المسلم عن أنواع المال فإنَّ العلماءَ يقَسِّمون المال قسمين: خاص وعام، ولكلٍّ منهما تعريفٌ عندهم.

المال الخاص: هو المال الذي يَملكه شخصٌ معيَّن، أو أشخاص محصورون، ومن أحكامه: جواز التصرُّف فيه بأصالة أو بوكالة أو بولاية، ويقطعُ سارقه بشروطه ([1]).

المال العام: هو ما كان مُخَصَّصًا لمصلحة عموم الناس ومنافعهم، أو لمصلحة عامة، كالمساجد والرُّبُط، وأملاك بيت المال؛ حيث لا قطْعَ فيه عند الجمهور، ويذكره الفقهاءُ: في باب البيع، والرَّهْن، والإجارة، وفي جميع أبواب المعاملات، وفي باب السَّرقة([2]).

فعلى هذا التعريف قد يكون المال الخاصُّ مالاً عامًّا إذا ما وَقَف شخصٌ أرْضَه؛ لتكونَ مسجدًا أو على جهة برٍّ عامَّة، وكما إذا انتزعتِ الدولة عَقارًا من مالكه؛ لتوسيع مسجدٍ أو طريق لداعي المصلحة العامَّة، والمال العام قد يصير خاصًّا، كما إذا اقتضتِ المصلحةُ العامَّة بَيْعَ شيءٍ من أملاك بيت المال، أو مصلحة الوقف بَيْعه لِمَن يرغب في شِرائه، فإن هذا المبيع يُصبح مِلكًا لِمَن اشتراه، ومالاً خاصًّا به([3]) .

المسألة الثانية: حرمة التعدي على المال العام:

 واعلموا عباد الله  انه يحرم التعدي على المال العام بِمُوجِبِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي حُرْمَتِهِ مِنَ الْمَالِ الْخَاصِّ؛ لِكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَتَعَدُّدِ الذِّمَمِ الْمَالِكَةِ لَهُ؛ لأنه مالُ المُسْلِمِين، والتَعَدِّي عَليه هو تَعَدٍّ على أَمْوالِ المُسْلِمين، وليس تعدٍّ على مالِ شَخْصٍ بَعَيْنِه، ولذلك تَكُونُ الوَرْطَةُ فيه أَشَدُّ، والإثم أعظم قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ [أَخْرَجَهُ مسلم].([4])

وَقَدْ أَنْزَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَنْزِلَةَ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي تَجِبُ رِعَايَتُهُ وَتَنْمِيَتُهُ، وَحُرْمَةُ أَخْذِه فقَالَ: رضي الله عنه « إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ مَنْزِلَةَ مَالِ الْيَتِيمِ».([5])

فحذار -عباد الله- من خيانة الأمانة، والعبث بالمال العام؛ فقد سماه الله تعالى سحتاً، وذم اليهود الذين استحلوا المحرمات: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، والسّحتُ يشمل كلَّ مال اكتُسِب بالحرام، يقول: «إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامة»،([6]) رواه البخاري.

 أي: يتصرَّفون في أموالِ المسلمين بالباطل. ومثل هذا الوعيد يجعل المرء العاقل يفكر قليلاً في ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، حتى لا يعود عليهم بالضرر العاجل والآجل.

حرمة المال العام قليله وكثيره ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين،.....: أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم وَبَرَةً من سَنَامِه فجعلها بين أصابعه السَّبّابة والوُسْطَى، ثم رفعها، فقال: "يا أيها الناس، ليس ليِ من هذا الفيء ولا هذه، إلا الخُمُس، والخُمُسُ مردودٌ عليكم، فرُدُّوا الخياطَ والْمخْيَطَ، فإن الغُلُوِلِ يكونُ على أهله يومَ القيامة عاراً، وناراً وِشَنَاراً"، فَقامِ رِجلَ معه كُبَّةٌ من شَعَر، فقال: إني أَخذتُ هذه أُصلِحُ بها بَرْدعَةَ بعيرٍ لي دبِر، قال: "أمَّا مَا كان ليِ ولبني عبد المطلب فهِوِ لك"، فقال الرجل: يا رسول الله، أمَّا إذْ بَلَغَتْ ما أرى فلا أرَب لي بها، ونبذها.. ([7])

المسألة الثالثة: لماذا إذًا شدَّد الشرْعُ في حُرمة الأخْذ من المال العام (الغُلُول)؟ لأمور، منها:

اعلموا بارك الله فيكم-:  أنه قد ذهب أكثر أهل العلم أن الأخذ من المال العام أشد من الأخذ من المال الخاص، فإذا سرقت من شخص بعينه فهذا حرام لأنك ظلمت شخصا ولكن من سرق من مال المسلمين فقد ظلم المسلمين كلهم الذين لهم الحق في هذا المال لذا فانَّ المالَ العام تتعلَّق به ذِمَمُ جميع أفراد الأمة، فمَن أخَذَ شيئًا من المال العام - سَرِقة واغتصابًا ونَهبًا - فكأنَّما سَرَق من جميع أفراد الأمة.

ولأنَّ الذي يَسْرق المال العام يَسْرق من الأصول التي بها حماية المجتمع من المجاعات والأَزَمات؛ لأنَّه يُخَرِّب في مال نفسه؛ لأنَّ المال العام كلُّ واحدٍ له نصيبٌ فيه، فمَن اعْتَدى على هذا المال وأخذَ منه شيئًا دون وجْه حقٍّ، فكأنَّما سَرَق مالَ نفسه.

المسألة الرابعة: حكم سرقة المال العام:

إخوة الإسلام :إن السرقة من المال العام من الكبائر التي اخبرنا عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم ....و السرقة نعلم حكمها و حدها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،و لكن هل يقام على السارق من المال العام حد السرقة أم لا ؟

اعلموا بارك الله فيكم أن للعلماء في هذه المسألة أقول نذكرها للعلم و البيان وهي

ذَهَب الحنفيَّة إلى أنه لا يقطع:

 قال ابن الْهُمَام في "فتْح القدير":"قوله: ولا يُقْطَع السارِق من بيت المالِ، وبه قال الشافعي وأحمد، والنَّخَعِي والشَّعْبِي

وقال مالك: يُقطع وهو قول حَمَّاد وابنِ الْمُنذر لظاهرِ الكتاب؛ ولأنه مال مُحرزٌ، ولا حقَّ له فيه قبل الحاجة، (ولنا أنَّه مالُ العامَّة وهو منهم)، وعن عمر وعَلِيٍّ مثله، وعن ابنِ مسعود فيمَن سَرَق من بيت المالِ، قال: أرْسِلْهُ؛ فما مِن أحدٍ إلاَّ وله في هذا المالِ حقٌّ"([8]).

ومذهب الحنابلة: قال ابنُ قُدَامة في "المغنِي": "ولا قَطْعَ على مَن سَرَق من بيت المال إذا كان مسلمًا، ويُرْوَى ذلك عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - وبه قال الشَّعْبي والنَّخَعي، والْحَكَمُ والشافعي، وأصحاب الرأْي، وقال حَمَّاد ومالكٌ وابن الْمُنذر: يُقْطَع لظاهر الكتاب، ولنا ما روى ابنُ ماجه بإسناده عن ابن عباس: أنَّ عبدًا من رقيق الْخُمُس سَرَق من الْخُمُس، فَرُفِعَ ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يَقْطعه، وقال: ((مال الله سَرَق بعضُه بعضًا))([9])

 ويروى ذلك عن عمر - رضي الله عنه - وسأل ابنُ مسعود عمرَ عمَّن سَرَق من بيت المال، فقال: "أرْسِلْه؛ فما من أحدٍ إلا وله في هذا المال حقٌّ".([10])

، عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "ليس على مَن سَرَق من بيت المال قَطْعٌ".([11])

ولأنَّ له في المال حقًّا، فيكون شُبهة تَمنع وجوبَ القَطْع، كما لو سَرَق من مالٍ له فيه شركة، ومَن سَرَق من الغنيمة ممن له فيها حقُّ، أو لولده أو لسَيِّده، أو لِمَن لا يُقْطَع بسرقة ماله، لَم يُقْطَع لذلك، وإنْ لَم يكنْ من الغانمين ولا أحدًا من هؤلاء الذين ذَكرنا، فسَرَق منها قبل إخراج الْخُمُس، لَمْ يُقْطَع؛ لأن له في الخمس حقًّا، وإنْ أخْرَجَ الخمس فسَرَق من الأربعة الأخماس، قُطِع، وإنْ سَرَق من الخمس لَمْ يُقْطَع، وإنْ قُسِّمَ الْخُمُس خمسةَ أقسامٍ، فسَرَق من خُمُس الله - تعالى - ورسوله، لَم يُقْطَع، وإنْ سَرَق من غيره، قُطِع، إلاَّ أنْ يكونَ من أهْل ذلك الْخُمُس([12]) .

وذَهَب المالكية: أنَّ السارق من بيت المال تُقْطَع يدُه، واستدلُّوا على ذلك بعموم قول الله - تعالى -: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38].

فإنَّه عامٌّ يشمل السارقَ من بيت المال والسارقَ من غيره، وبأنَّ السارق قد أخَذَ مالاً مُحَرَّزًا، وليستْ له فيه شُبهة قويَّة، فتُقْطَع يده كما لو أخَذَ غيرَه من الأموال التي ليستْ له فيها شُبهة قويَّة([13]) .

المسألة الخامسة: ضمان ما فسد من مال عام:

إخوة الإسلام: من المسائل التي يجهلها كثير من الناس أن من أتلف شيئا من المال العام ضمنه سواء كان بتفريط أو غير تفريط؛ لأن الأصل ضمان أموال الناس بمجرد الإتلاف والتفريط، وعدمه دعوى.

ولا يوجد دليل يرفع الضمان عمن أتلف غير مفرط، بل أدنى ما يقال فيه أنه خطأ لا عمد ولا يقال ذلك في التفريط؛ لأن التفريط نوع تعمد.

والشريعة تضمن حال الخطأ إتلافات الأموال والأنفس، ولو من غير مكلف كصبي ومجنون. ([14])

فمن أتلف مالاً محترماً لغيره -عمداً، أو خطأ-؛ ضمنه، قال الإمام ابن أبي زيد -المالكي-في الرسالة، ممزوجاً بالشرح: ومن استهلك عرضاً، أو أتلفه، فعليه قيمته، أو مثله في الموضع الذي استهلكه فيه، أو أتلفه، سواء كان عمداً أو خطأً؛ إذ العمد والخطأ في أموال الناس سواء...وسواء كان بالغاً، أو غير بالغ، وسواء باشر أو تسبب، على المشهور. اهـ..([15])

قد جاء في التهذيب للبغوي الشافعي: ولو أتلف شيئاً من مال الغنيمة؛ لزمه الضمان، وإن لبس منه ثوباً، تلزمه أجرته. اهـ.([16])

وقال النووي في روضة الطالبين: ولو أتلف بعض الغانمين من طعام الغنيمة شيئاً، كان كإتلافه مالاً آخر، فيلزمه رد القيمة إلى المغنم؛ لأنه لم يستعمله في الوجه المسوغ شرعاً. اهـ.([17])

قال الحطاب المالكي: وقال في المسائل الملقوطة: العمد والخطأ والإكراه في أموال الناس سواء يجب ضمانها، وهو من خطاب الوضع ولا يشترط فيه التكليف والعلم، فلا فرق في الإتلاف بين الصغير والكبير والجاهل والعامد([18])

المسألة السادسة: التوبة من المال العام:

معاشر الموحدين: ومن المسائل المتعلقة بالمال العام مسألة كيفية التوبة من المال العام، بمعنى أن عاملا اأخذ مالا من الأموال العامة كيف تكون توبته ؟

أولاً: الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله – تعالى – وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ؛ لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام – ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشركات الخاصَّة – هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم؛ في وجوب المحافظة عليه، وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه، ويُستثنَى من ذلك ما تَعَارَف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكيَّة، فيُعْفَى عنه باعتباره مأْذونًا فيه ضِمنًا، على ألاَّ يتوسَّعَ في ذلك؛ مُرَاعاة لأصْل المنْع، على أنَّ الوَرَع أوْلَى بالمسلم الحريص على دينه؛ (ومَن اتَّقى الشُّبهات، فقدِ استبرَأَ لدينه وعِرْضه)) ([19]).

والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال – خزينة الدولة – لِمَا روى أحمد وأبو داود والترمذي عن سَمُرة بن جُنْدَب – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((على اليدِ ما أخَذَتْ، حتى تُؤَدِّيَه)) ([20]) .

قال ابن قُدامة – رحمه الله -: "إذا ثبَتَ هذا، فمَن غصب شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إنْ كان باقيًا بغير خِلافٍ نَعْلَمه" ([21]).

وهذا الردُّ مِن تمام التوبة، فإنه يُشترط لصحة التوبة رَدُّ المظالِم والحقوق إلى أهلها، مع الندَم والاستغفار، والعَزْم على عدم العود لذلك، لكن إذا تعذَّر الردُّ إلى بيت المال، فإنه يتصدَّق بما بَقِي من المال على الفقراء والمساكين، وإنْ كان هو فقيرًا، جازَ أن يأخذ منه قَدْرَ حاجته، وأمَّا ما سَبَق أكْلُه وإنفاقُه وصَرْفُه، فنرجو أنْ يعفوَ الله عنه.

ثانيًا: يَلزم مَن أخذَ شيئًا من المال العام من أيِّ طريقة أنْ يردَّه إلى مَحلِّه، ولو سبَّب ذلك حَرَجًا له، فإنْ عجَزَ الإنسان عن إرجاع ما أخَذَ أو سيُسبِّب حدوثَ مَفْسدة أكبر بإرجاعها، فإنها تُجْعَل في مَنْفعة عامَّة للمسلمين؛ قال النَّوَوي في "المجموع": "قال الغزالي: إذا كان معه مالٌ حرامٌ وأرادَ التوبة والبراءَة منه، فإنْ كان له مالِكٌ مُعينٌ، وجَبَ صَرْفُه إليه أو إلى وَكيله، فإن كان مَيِّتًا وجَبَ دَفْعُه إلى وارِثه، وإنْ كان لمالكٍ لا يَعرفه، ويَئِس من معرفته، فينبغي أن يَصْرِفَه في مصالح المسلمين العامَّة؛ كالقناطر والرُّبُط، والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يَشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدَّق به على فقيرٍ أو فقراء ".([22])

المسألة السابعة: حرمت استخدام المال العام في المصلحة الخاصة:

معاشر الموحدين: ومن صور التعدي عل المال العام أن يتربح الموظف من الوظيفة واستغلالها لأغراضه الأساسية وهذا أيضا من خيانة الأمانة وإضاعة للمال العام.

أين نحن من الوَرع في حقوقِ العباد؟

فهذه قصّة الشمعة والسراج حين وفد على عمر بن عبد العزيز رسول من بعض الآفاق، فانتهى إلى باب عمر ليلاً، فقرع الباب، فخرج إليه البواب، فقال له: أخبر أمير المؤمنين أن بالباب رسولاً من فلان عامله، فدخل وأخبر عمر وكان أراد أن ينام فقعد، وقال: ائذن له. فدخل المرسل فدعا عمر بشمعة غليظة وأوقد عليها ناراً، وأجلس الرسول، وجلس عمر، قل عن حال أهل البلد ومن بها من المسلمين وأهل العهد، وكيف سيرة العامل فيهم؟ وكيف الأسعار؟ وكيف أبناء المهاجرين والأنصار، وأبناء السبيل، والفقراء وهل أعطى كل ذي حق حقه؟ وهل له شاكٍ؟ وهل ظلم أحدًا؟ فأنبأه بجميع ما علم من أمر تلك الولاية.

حتى إذا فرغ عمر من مسألته قال له: يا أمير المؤمنين كيف حالك في نفسك وبدنك؟ وكيف عيالك وجميع أهل بيتك ومن تعنى بأنه فنفخ عمر على الشمعة فأطفأها بنفخته، وقال: يا غلام علي بسراجي، فأتى بشمعة لا تكاد تضيء، فقال: سل عما أحببت، فسأله عن حاله، فأخبره عن حاله وأهل بيته، فعجب الرسول للشمعة وإطفائه إياها، وقال: يا أمير المؤمنين، رأيتك فعلت أمرًا ما رأيتك فعلت مثله! قال: وما هو؟ قال: إطفاؤك الشمعة عند مسألتي إياك عن حالك وشأنك. فقال: يا عبد الله إن الشمعة التي رأيتني أطفأتها من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك من حوائجهم وأمرهم، فكانت تلك الشمعة تقد بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم، فلما صرت لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين، وأوقدت شمعتي التي هي خاصتي..

لا فليفقه هذا الكلام من يعتبر سيارة الدولة -التي خُوِّلها ليقضي بها مصالح المسلمين - كأنها سيارته الخاصة، يقضي بها مآربه ومآرب زوجته وأبنائه، ومن يعتبر الخط الهاتفي في مكتبه - الذي وضع رهن إشارته لتسهيل قضاء مصالح الناس - كأنه خطه هو، يتصل منه في حاجاته الخاصة ولا يبالي، ومن يسخر الموظفين الذي جُعلوا تحت يده، ويتقاضون أجرا من الدولة كأنهم موظفون عنده، ينقلون الأولاد إلى المدرسة، ويشترون أغراضه الخاصة من السوق.

المسألة الثامنة: ما واجبنا تجاه المال العام؟

معاشر الموحدين: إنَّ الله -سبحانه -حرَّم الاعتِداء على مال الغير بأيِّ نوعٍ من العُدوان، وجعَلَه ظُلمًا يكون ظلمات يوم القيامة، ووضَعَ له عقوبات دنيويَّة بالحدِّ أو التعزير بما يتناسب وحَجْم الاعتداء وأهميَّته، فإنه حرَّم علينا الاعتداء على الممتلكات العامَّة، التي ليس لها مالِكٌ معيَّنٌ؛ فهي مِلْكٌ للجميع، ولكلٍّ فيها قدرٌ ما يجبُ احترامه، والظُّلم فيه ظُلمٌ للغير وللنفْس أيضًا، والله لا يحب الظالمين.

لقد قال الله في الغنائم التي هي مِلْك للعامَّة: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161].

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيمَن استغلَّ وظيفتَه ليكْسِبَ بها لنفسه، حينما جاء بما جَمَعه من الصَّدقات المفروضة، واحتجزَ لنفسه الهدايا التي قُدِّمَتْ إليه، قال: ((هلاَّ جَلَس في بيت أبيه وأُمِّه؛ حتى ينظرَ أيُهْدَى إليه أم لا))([23]).

وحذَّر من مَجيء هذه الأموال المختلسة شاهِدَ إدانة عليه يوم القيامة يَحملها على ظَهْره، ولا مُجير له يدافعُ عنه، كما بيَّن أنَّ مَن وُلِّيَ على عملٍ وأخَذَ أَجْره، كان ما يأخذه بعد ذلك غُلولاً.

والخلفاء الراشدون والسلف الصالح كانوا قُدوة طيِّبة في التعفُّف عن الأموال العامَّة، التي هي حقُّ المسلمين جميعًا، فكانوا لا يأخذون من بيت المال إلاَّ حاجتهم الضروريَّة؛ كما قال أحدُهم: أنا في مال المسلمين كوَلِي اليتيم؛ حيث يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6].

لَمَّا قاتَلَ الصحابة الفُرس وهَزَموهم، وأخْمَدَ الله نارَ المجوس، وجدوا تاجَ كِسرى وبِسَاطه، واللآلئ والجواهر، ووجدوا دُورًا مَليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافورًا كثيرًا جدًّا، ظنُّوه مِلْحًا، خَلَطوه بالعجين، فصار العجينُ مُرًّا، فعَرَفوا أنه ليس بِمِلْحٍ.

لَمَّا قَسمَ سعد الغنائِمَ، حصَلَ الفارس على اثني عشر ألفًا، وكانوا كلُّهم فُرسانًا، كانوا في معركة بدرٍ ليس معهم إلا فارس، وبعضُهم يتعاقبون بعيرًا، وبعضهم مُشَاة، حتى عُقْلَة البعير لا يجدها، وبعَثَ سعد أربعةَ أخماس البِساط إلى عُمر، فلمَّا نَظر إليه عمر، قال: "إنَّ قومًا أدوا هذا لأُمَناء"، فقال عَلِي: "إنَّك عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا"، ثم قَسمَ عمر البِسَاط على المسلمين، فأصابَ عليًّا قطعةٌ من البِسَاط، فبَاعَها بعشرين ألفًا".([24])

لقد كانتْ لهم مواقفُ رائعة في تعفُّفهم عن المال العام؛ ليَضربوا المثلَ لغيرهم على مدى التاريخ، ووقفوا بقوَّة أمام التصرُّفات التي يظنُّ أنَّ فيها مسَاسًا بأموال المسلمين، فصادروا ما رأوه من هذا القبيل، وأوْدَعوه بيت المال، إنه لا يعصم من الانحرافِ بخصوص المال العامِّ إلا رقابةُ الله - تعالى - الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، وإلاَّ الإيمانُ بأنَّ كلَّ لحمٍ نَبَت من سُحْتٍ، فالنارُ أوْلَى به، وإلاَّ حُسْنُ اختيار من تُوكَل إليهم الأمور على أساس الخبرة والأمانة؛ كما قال يوسف للعزيز: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55].

المسألة التاسعة: لماذا انتشر التعدي على المال العام؟

أحبتي في الله: إن الناظر إلى أحوال كثير من الناس –إلا ما رحم ربك-يجدهم يتعدون على المال العام إما بالسرقة، أو الرشوة، أو الاختلاس، أو الإتلاف، أو بالتفريط، و المحاباة ......لذا فإن ذلك كله يرجع إلى عدة أسباب نذكرها إليكم مجملة:

1-ضَعْف العقيدة عند المعتدي، ورِقَّة الدِّيَانة المفْضِية إلى ذلك.

2-سوءُ الْخُلق، وانعدام الْمُروءة.

3-الْجَهل بأحكام الله - عزَّ وجلَّ.

4-عدم مُراقبة المولَى - سبحانه وتعالى.

5-عدم تطبيق أحكام ومبادئ دين الإسلام العظيم.

6-ضَعْف النُّظم والأجهزة المنُوطَة بحمايته.

7-تقصير وَلِيِّ الأمر في القيام بالمسؤوليَّات التي حَمَّلَه الله إيَّاها، وفي هذا المقام نذكُر قولَ عمر - رضي الله عنه -: "لو أنَّ بَغْلَةً عَثرتْ في الطريق بالعراق، لسُئِل عنها عمر: لِمَ لَم تُمَهِّد لها الطريقَ؟".

8-ضَعْف القِيَم الإيمانيَّة، وعدم الالتزام بالأمانة والصِّدق، والعِفَّة والنَّزَاهة.

9-ضَعْف رُوح الأخوَّة، وعدم وُجُود القُدوة الْحَسَنة.

10-تَفَشِّي المحسوبيَّة والمجاملات الشخصيَّة.

المسألة العاشرة: مسؤولية المرء عن المال العام يوم القيامة :

أحبتي في الله: اعلموا -بارك الله فيكم- أن الله - عزَّ وجلَّ - توعَّد بالوعيد الشديد لِمَن أخَذَ من المال العام شيئًا، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161].

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "خرجْنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم "خَيْبَر"، فلم نَغْنمْ ذهبًا ولا فِضَّة، إلاَّ الأموال والثياب والمتاع، فأهْدَى رجلٌ من بني الضُّبَيْب يُقال له: رِفَاعة بن زيد لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - غلامًا يُقال له: "مِدْعَم" فوجَّه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى وادي القُرى، حتى إذا كان بوادي القُرى، بينما "مِدْعَم" يحطُّ رحْلاً لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سَهْمٌ عائِر فقَتَله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلَة التي أخَذَها يومَ "خَيْبَر" من المغانم لَم تُصِبْها المقاسِمُ، لتَشْتَعِلُ عليه نارًا))، فلمَّا سَمِع ذلك الناسُ، جاء رجلٌ بشِرَاكٍ أو شِرَاكين إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((شِرَاكٌ من نارٍ أو شِرَاكان من نار الشَّمْلَة التي غَلَّها لتَشتعِلُ عليها نارًا)) ([25]).

حتى منَ قاتَلَ وأبْلَى بلاءً حسنًا في المعركة، ولكنَّه غلَّ من الغنيمة، فله عقوبة شديدة، حتى ولو ظنَّ الناسُ أنَّه في عِدَاد الشهداء، فالأمرُ ليس كذلك.

في الصحيحين عن عمر -رضي الله عنه -: "لَمَّا كان يوم "خَيْبر" أقْبَلَ نفرٌ من صحابة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجلٍ، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ؛ إني رأيْتُه في النار في بُرْدَة غَلَّها أو عَبَاءَة))، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا ابن الخطاب، اذْهَبْ فنادِ في الناس، أنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون))، قال: فخرجتُ، فناديتُ: ألاَ إنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون"([26]) .

والنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم - كان كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَه، مبيِّنًا لهم خُطورة هذا الأمر الشديد - الغُلُول والسرقة من الغنيمة، والتي تُعَدُّ بمثابة المال العام الذي يَنبغي أن يُحفَظَ من قِبَل أفراده.

فقد روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " قام فينا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَ أمرَه، قال: ((لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك)) ([27]) .

الدعاء............................................

 

 



[1] - الموسوعة الفقهية الكويتيَّة

[2] - مفهوم المال في الإسلام؛ للداودي ص16، الموسوعة الفقهيَّة الكويتية، (19/ 7).

[3] - الموسوعة الفقهيَّة، 19/ 7.

[4] - أخرجه: مسلم 6/ 12 (1833) (30).

[5] - صحيح؛ أخرجه ابن جرير في التفسير 4/ 255، وابن سعد 3/ 276، وابن شبه (1141)، وبنحوه النحاس في الناسخ والمنسوخ 1/ 296، والبيهقي 6/ 354.

[6] - رواه البخاري 6 / 153 في الجهاد، باب قول الله تعالى: {فأن لله خمسه} ، والترمذي رقم (2375) في الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه.

[7] - أحمد (2/ 184) واللفظ له، وقال شاكر: إسناده صحيح (11/ 18) رقم (6729) .. وروى أبو داود بعضه (2694) . البيهقي في السنن الكبرى (6/ 336، 337)

[8] - شرْح فتْح القدير على الهداية، ط إحياء التراث.

[9] - أخرجه أبو يعلى كما في الإتحاف (4707). وأخرجه ابن ماجه (2590) عن جبارة به،

[10] - المصنف في المعرفة (4009)، والشافعي 4/ 155.).

[11] - أخرجه البيهقي [8/ 282] ، كتاب السرقة: باب من سرق من بيت المال.

[12] - المغني؛ لابن قدامة، 9 / 135، ط مكتبة القاهرة.

[13] - حاشية الدسوقي على الشرْح الكبير، 4/ 366، ط دار الفكر.

[14] - - كتاب المقدمة في فقه العصر - ص320

[15] - «حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني» (2/ 283)

[16] - «التهذيب في الفقه الشافعي» (5/ 178):

[17] - «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (10/ 263)

[18] -(مواهب الجليل 14/317).

[19] - أحمد (18374)، وأخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما

[20] - رواه أحمد في مُسنده، 20086، وأبو داود في سُننه 3561، والترمذي في سُننه 1266، وقال: حديث حَسنٌ صحيح، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: حسن لغيره.

[21] - المغني؛ لابن قُدامة المقْدِسي، 5/ 374.

[22] - «المجموع شرح المهذب» (9/ 351 ط المنيرية)

[23] - أخرجه البخاري (6979)، واللفظ له، ومسلم (1832)، عن أبي حميد الساعدي، قال: "استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صَدقات بني سليم، يُدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسَبَه، قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلَّا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنتَ صادقًا"، ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل ممَّا وَلَّاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي، أفلا جَلَسَ في بيت أبيه وأمه حتَّى تأتيه هديته … ""

[24] - «الضياء اللامع من الخطب الجوامع» (2/ 370) الميسر في حياة الخلفاء الراشدين (ص: 147)

[25] -رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنُّذور، باب: مَن نَذَر أنْ يصومَ أيامًا، فَوافَقَ النحرَ أو الفِطر، جزء 6 صفحة 2466، حديث 6329، ومسلم، كتاب الإمارة، باب غِلَظ تحريم الغُلُول، جزء 6 صفحة10، حديث 4839.

[26] - أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 465 -466، ومسلم (114)

[27] - البخاري (6/ 214 - 215 رقم 3073).وأخرجه مسلم (3/ 1461 رقم 1831)

خطبة تذكرة الأنام بعشر مسائل تتعلق بالمال العا1.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf