خطبة تحفة الكرام بوسائل صناعة العقل في الإسلام.pdf
تحفة الكرام بوسائل صناعة
العقل في الإسلام
الشيخ السيد مراد
سلامة
الخطبة الأولى
أما بعد: حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمة العقل،
فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة، والخيرَ والشر، والحقَّ
والباطل، والمعروفَ والمنكر، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70]، فالله
- تعالى - فضَّل بني آدم على غيرِهم منَ الجمادات، والحيوانات، والنباتات بهذا العقْل........................
خلق الله للعقل :
إخوة الإسلام: إن
العقل من أفضل المخلوقات التي خلقها الله
جل جلاله فبه يعرف الإنسان ربه، و به يعبده ،وبه يأتمر بأمره و ينتهي عند نهيه ،وجاء
في الحديث و إن كان فيه ضعف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلَ قَالَ
لَهُ: قُمْ، فَقَامَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُ:
أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
مَا خَلَقْتُ خَلْقًا خَيْرًا مِنْكَ وَلَا أَكْرَمَ مِنْكَ وَلَا أَفْضَلَ مِنْكَ
وَلَا أَحْسَنَ مِنْكَ بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي وَبِكَ أُعِزُّ وَبِكَ أُعْرَفُ
وَإِيَّاكَ أُعَاتِبُ بِكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ "([1])
عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ
لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ قَالَ: يَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ: وَعِزَّتِي
وَجَلَالِي لَا أَجْعَلُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ وَمَا خَلَقْتُ شَيْئًا هُوَ
أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ "([2])
خَيْرُ النِّعَمِ بَعْدَ الْإِيمَانِ
الْعَقْلُ:
واعلموا عباد
الله : أن من خير النعم بعد نعمة الإيمان نعمة العقل عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ،
قَالَ: «مَا أُوتِيَ رَجُلٌ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا
مِنَ الْعَقْلِ»([3])
عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: «أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ
الْعِبَادُ فِي الدُّنْيَا الْعَقْلُ وَأَفْضَلُ مَا أُعْطُوا فِي الْآخِرَةِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»([4])
الْحَسَنَ، يَقُولُ: «مَا يَتِمُّ دِينُ الرَّجُلِ
حَتَّى يَتِمَّ عَقْلُهُ»([5])
وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللهِ
لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنَ
الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ
لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ*** فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمَآرِبُهْ
وقال الشاعر:
لَيْسَ الجَمَالُ بِأَثْوَابٍ
تُزَيِّنُنَا *** إِنَّ الجَمَالَ جَمَالُ
العَقْلِ وَالأَدَبِ
وقال آخر:
يُعدُّ رفيعَ القوم من كان
عاقلاً ** وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حلّ أرضاً عاش فيها بعقله ** وما عاقل في بلدة بغريب
صناعة العقل المؤمن المفكر:
إخوة الإيمان: ولقد جاء القرآن الكريم ليفتح للمسلم
مدارك عقله بأمره بالتفكر في المخلوقات من حوله ليستدل بها على وجود الخالق المدبر
الذي ابدع كل شيء خلقه يقول الله تعالى {أَوَلَمْ
يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ
شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 185، 186]
تأمل بعقلك أيها المسلم و انظر حولك لترى قدرة القدير و
بديع صنعه الدال على عظمته جل {فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ
شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا
وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [عبس: 24 - 32] .
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبةٍ
وكيف صارت شجره
ابحث وقل من ذا
الذي يخرج منها الثمرة
ذاك هو الله الذي
أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة
وقدرة مقتدرة
وقال أخر:
سل الواحة
الخضراء والماء جاريا
وهذه الصحاري والجبال الرواسيا
سل الزهر مزداناً
سل الروض والندى
سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام
والأرض والسما
سل كل شيء تسمع
التوحيد لله ساريا
أإله مع الله؟ لا رب غيره ولا معبود سواه.
وقال {وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا
فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ *
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33-40] أإله مع الله؟!!!
لا رب غيره ولا رب سواه.
الله ربي لا إله
سواه **** هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من
أنوار حكمته**** والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه
والوحش مجده ****والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت
الصخور الصم قدسه**** والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه
جهراً فيسترهم **** والعبد ينسى وربي ليس
ينساه
أإله مع الله؟!! لا رب غيره ولا معبود سواه.
إن القرآن -من خلال هـذه الآيات وغيرها كثير-يريد أن
يضعنا في قلب الطبيعة على مستوى الكون والعالم وأن يختار لنا موقعا " تجريبيا
" يعتمد النظر والتمعن والفحص والاختبار من أجل الكشف باتجاه الروح أو
الأخلاق، ونهمل التكييف والتطوير الماديين الملازمين لأية حضارة متوازنة تريد أن
تتحقق بالشرط الأساسي للوجود الإنساني على الأرض وهو عبادة الله والتوجه إليه أخذا
وعطاء.
صناعة العقل السليم:
إخوة الإسلام: الإسلام جاء ليحافظ على تلك النعمة نعمة
العقل جاء الإسلام ليصنع العقل السليم الذي يخلو من الأمراض ويخلو من الشبة و يخلو
مما يضره لذا عباد كانت القاعدة تقول الجسم السليم في العقل السليم و لقد حرم الله
تعالى على المسلم كل ما يضر به و يخل بوظيفته التي من أجلها خلقه
فلقد حافظ الإسلام على العقل البشري محافظة شديدة،
واعتنى به اعتناء بالغاً؛ لأنه مناط استقامة دنيا الإنسان ودينه، وسبب للسلامة في
المجتمعات.
فقد حرم على صاحبه كل المفسدات العقلية الحسية
والمعنوية. فالمفسدات الحسية هي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل حتى يصبح الإنسان
كالمجنون لا يعرف الضار من النافع، ولا الزوجة من الأم أو البنت. وهذه المفسدات
العقلية الحسية هي الخمور والمخدرات وما قام مقامها. وقد جاء النص على تحريم الخمر
ويقاس عليه ما ماثله في الإسكار أو زاد عليه أو نقص، جاء ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ
فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة 90 - 91]..
يقول الفيلسوف (بنتام) في كتابه: "أصول
الشرائع":"النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله، و في
الأقاليم الجنوبية يصير كالمجنون، و قد حرمت ديانة محمد صلى الله عليه و سلم جميع
المشروبات، و هذا من محاسنها".
ولن تجد عاقلًا في الدنيا متحرِّرًا من شهواته وأهوائه
يحكم على المُسْكرات والمخدرات بأنها من الطيبات، فكلُّ العقلاء مُجمعون على أنَّ
المسكرات بكلِّ أنواعها ومسمياتها مضرَّة بالبدن، مُفسِدَة للعقل، قاطعة عن
الصِّلة بالله، محرِّضة على الفواحش والمنكرات، مِن زنا وقتل وسَرقة ونيل من أعراض
النَّاس، وإفساد للعلاقات الاجتماعية، وهو ما أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه
وسلم بقوله: ((لا تَشربِ الخمر؛ فإنَّها مِفْتَاح كلِّ شَرٍّ))([6])
، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخَمْرُ أمُّ الخَبائث)) ([7])
، وعندما جاءه رجل يسأله عن صنع الخمر، نهاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن
ذلك، فقال الرجل: إنَّما أصنعُها للدَّواء، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
((إنَّه ليس بدواءٍ، ولكنَّه داءٌ)) ([8])
.
صناعة العقل المتسامح:
معاشر الموحدين : اعلموا أن ذلكم العقل الذي يؤمن بحكمة
الله تعالى باختلاف الناس و اختلاف عقائدهم التي يعتقدونها و أن ذلك لحكم ربانية و
فيدفعه ذلك إلى الأخذ بمبدأ التسامح مع الغير من خلال فهمه للنصوص القرآنية التي
تدعو المسلم إلى التسامح مع الغير و ألا يظلم أحدا بسبب لونه أو عرقه أو معتقده فامرنا بالدعوة بالتي هي احسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
[النحل: 125] وقال سبحانه {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} العنكبوت 46 –
{وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب} من اليَّهودِ
والنَّصارَى {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي
بالخَصلة التي هي أحسنُ كمقابلةِ الخشونةِ باللِّينِ والغضبِ بالكظمِ والمشاغبةِ
بالنُّصحِ والسَّورةِ بالأَناة على وجهٍ لا يدلُّ على الضَّعفِ ولا يُؤدِّي إلى
إعطاءِ الدَّنيةِ وقيل منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة]، وقال
تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
(107)} [الأنبياء]
وهذا موافق للبرهان العقلي: إذ في إساءة معاملتهم من
الصد عن سبيل الله والتنفير عن دينه ما يتنافى مع الحكمة والموعظة والجدال بالتي
هي أحسن، كما أن الله أرسل رسوله رحمة للعالمين، وليس من الرحمة في شيء تنفير
الكافرين بإساءة معاملتهم والتجهم في وجوههم!
صناعة العقل المُسَلِم المنقاد لأمر الله تعالى:
إخوة الإسلام: جاء الإسلام ليروض تلك العقول على السمع والطاعة
والانقياد لأمر الله وعدم معارضة العقل لصريح النقل قال الله سبحانه وتعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
إن الدين لا يؤخذ بالعقل بل يؤخذ بالوحى، والسنة النبوية
من الوحي ومصدر من مصادر التشريع الإسلامي، يقول الإمام على -رضي اللَّه عنه-: (لو
كان الدين بالعقل، لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره) أي أعلاه، والمعنى
واللَّه اعلم: أن لو كانت الأحكام التشريعية تؤخذ عن طريق العقل من دون الرجوع إلى
تعاليم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-يمسح ظاهر الخف فأتبعه وطبق سنته من دون
الرجوع أو الإلتفات إلى العقل.
قال ابن أبي العز الحنفي: (فالواجب كمال التسليم للرسول
-صلى اللَّه عليه وسلم- والإنقياد لأمره، وتلقى خبره بالقبول والتصديق، دون أن
نعارضه بخيال باطل نسميه معقولًا، ونحمله شبهة أو شكًا، أو تقدم عليه أراء الرجال
وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما نوحد المرسل
بالعبادة والخضوع والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب اللَّه
إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول) ([9]).
ولهذا لَمَّا جاء عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه
وأرضاه إلى الحجر الأسود وقبَّلَه قال: "إنِّي أعلم أنَّك حجرٌ لا تَضرُّ ولا
تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك"([10])
.
أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعد : ..................
صناعة العقل المتحرر من الخرافات والتقاليد
التي لا برهان عليها:
أيها المؤمنون عباد الله: لقد حرص الإسلام على تحرير
العقل من الخرافات والخزعبلات والتقليد الذي ينافي الفطرة وينافي الشرع الحنيف ........
واعلموا عباد الله أن العقلية العلمية فى نظر القرآن: هي
التي ترفض الجمود على ما كان عليه الآباء والأجداد, أو التسليم المطلق لما عليه
السلف المعظمون, ولا تقبل أن تقلد هؤلاء أو أولئك فيما اعتقدوه أو فعلوه, بل لابد
من وضعه موضع الاختبار, والنظر إليه في ضوء العقل, وبميزانه المستقل, فليس من
المعقول أن يفكر لنا الأموات ونحن أحياء, وأن يلزمنا الأقدمون بنتائج عصور مضت,
إنما نحن ملزمون بما تهدي إليه عقولنا, وما ينتهي إليه تفكيرنا. فإن من الخطل
والخطر أن نفكر برؤوس غيرنا, وقد خلق الله لنا رؤوسا خاصة بنا! ولهذا شن القرآن
حملة عنيفة على الجمود والتقليد فى كل صوره
قال الدكتور عبد الحليم عويس "لقد حشد القرآن ما
يقرب من خمسين آية في تحريك العقل البشري وانتشاله من وهدة التقليد والتبلد، كما
حشد عشرات الآيات في إيقاظ الحواس من سمع وبصر ولمس، وعشرات أخرى في إيقاظ التفكير
والتفقه فضلا عن آيات طلب البرهان والحجة والجدال بالتي هي أحسن. . بل أن القرآن
أضاف حقيقة في غاية الأهمية هي أنه أطلق كلمة العلم على الدين([11])
ففي سورة البقرة يقول تعالي: {وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي
يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170، 171].
وفى سورة المائدة يقول سبحانه {وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
ففي سورة البقرة بين أنهم ينقصهم العقل، وهنا بين أنهم
ينقصهم العلم، وفى كلتا الحالتين بين أنهم ينقصهم الاهتداء إلى الصواب.
وفى سورة الزخرف يقول تعالي
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (} [الزخرف: 22، 24].
فبين الله تعالى أن هذا هو موقف المترفين من أهل الشرك
من قديم:" الاتكاء على ما كان عليه الآباء.
جاء ليصنع عقولا متحررة من الخرافات و الخزعبلات وعندما
كسفت الشمس في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك في اليوم الذي مات فيه
(إبراهيم) ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب
موت إبراهيم، ووصل هذا التعليل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ((إن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته))([12])
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما - واللفظ للبخاري - عن
أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى،
ولا صفر، ولا هامة))، وفي رواية: ((ولا طيرة))، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما
بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فيجربها؟ فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمَن أعدى الأول؟!)).([13])
صناعة العقل المدرك لنعم الله عليه :
إخوة الإسلام: إن
كثيرا منا لا يدرك حقيقة نعم الله عليه وما أكرمنا به من عطايا وهبات لأننا لا
نفكر ولا نعمل عقولنا في النعم التي أسبغها الله تعالى علينا {وَآتَاكُمْ مِنْ
كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]
وقال تعالى وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
عطيته إذا أعطى
سرور وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أعم
فضلا وأحمد في عواقبها إيابا
أنعمته التي أهدت
سرورًا أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن
نزلت بكرهٍ أحق بشكر من صبر احتسابا([14])
وقد قال بعض السلف: "نعمة الله فيما زوى عني من
الدنيا... "
وجاء بعضهم يشكو فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة
اهتمامه بذلك، فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟
قال: لا، قال: أيسرك أنك أخرس، ولك عشرة آلاف درهم؟ قال:
لا، قال: أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك
مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أما تستحي أن تشكر مولاك، وله عندك عروض
بخمسين ألفا؟ ([15]).
وجاء أحد الفقراء وقد اشتد به الفقر حتى ضاقت به الحال،
فرأى في المنام كأن قائلاً يقوله له: أتود أنا أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف
دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف؟ قال: لا، قال: فمعك
قيمة مائة ألف دينار، وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه([16]).
قال الدكتور
مصطفى السباعي رحمه الله :
زر المحكمة مرة في العام لتعرف فضل الله عليك في حسن
الخُلق.
زر المستشفى مرة في الشهر لتعرف فضل الله عليك في الصحة
والعافية.
زر الحديقة مرة في الأسبوع لتعرف فضل الله عليك في جمال
الطبيعة.
زر المكتبة مرة في اليوم لتعرف فضل الله عليك في العقل.
زر ربك كل آن لتعرف فضله عليك في نعم الحياة.
وَكَمْ مِنْ
نِعْمَةٍ لِلَّهِ تُمْسِي وَتُصْبِحُ
لَيْسَ تَعْرِفُهَا كَبِيرَةْ
وَكَمْ مِنْ
مُدْخَلٍ لَوْ مُتَّ فِيهِ لَكُنْتُ بِهِ
نَكَالاً فِي الْعَشِيرَةْ
وُقِيتَ السُّوءَ
وَالْمَكْرُوهَ فِيهِ وَرُحْتَ بِنِعْمَةٍ
فِيهِ سَتِيرَةْ ([17])
الدعاء ..........................
[1] - العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 31) [المعجم
الأوسط للطبراني (1883) و هو ضيف
[2] - العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 31)
[3] - العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 32)
[4] - العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 33)
[5] - العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 34)
[6] - أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص (20)، برقم
(18)، وابن ماجه في الأشربة، برقم (3371)، والحاكم في المستدرك (4/ 162)، برقم
(7231)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[7] - أخرجه النسائي في الأشربة، برقم (5666) موقوفًا
على عثمان رضي الله عنه، والطبراني في الأوسط (4/ 81)، برقم (3667) مرفوعًا عن
عبدالله بن عمرو بن العاص، وكذا ابن حبان في صحيحه (12/ 168)، برقم (5348)، قال
العجلوني في الكشف، برقم (1225): رواه القضاعي عن ابن عمرو بسند حسن.
[8] - أخرجه مسلم في الأشربة، برقم (1984)، وأبو داود
في الطب، برقم (3873)، والترمذي في الطب، برقم (2046).
[9] - العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
[10] - رواه البخاري (1597) ، ومسلم (1270)
[11] - ص 17 لا نزاع بين الدين والعلم في المنهج
والموضوع د. عبد الحليم عويس
[12] - صحيح البخاري، كتاب الكسوف، الباب رقم 6.
[13] - أخرجه البخاري "5771" في الطب: باب
لا هامة، و"5773" و"5774" باب لا عدوى، ومسلم
"2221" "105"، وأحمد 2/406،
[14] -بهجة المجالس وأنس المجالس (ص:252).
[15] -إحياء علوم الدين (4/ 124).
[16] -إحياء علوم الدين (4/ 124).
[17] -التوبة لابن أبي الدنيا (ص:106).
تعليقات
إرسال تعليق