خطبة رمضان شهر العتق من النار.pdf



رمضان شهر العتق من النار

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

 

أما بعد: ..................

إخوة الإسلام: إن شهر رمضان شهر تغلق فيه النار وتفتح فيه أبواب الجنان ويمن الله -تعالى -على من يشاء من عباده الصائمين ويعتقهم من نار جهنم، ويصبح معهم براءة من نار حرها شديد وقعرها بعيد ومقامعها من حديد

عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد -هو شك، يعني الأعمش -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة " ([1])

وعن جابر بن عبد الله مرفوعًا: ((إن لله عند كل فطرٍ عتقاءَ، وذلك في كل ليلة)) ([2])

وعن أبي سعيد الخُدْري مرفوعًا: ((إن لله -تبارك وتعالى -عتقاء في كل يوم وليلة -يعني: في رمضان – وإن لكل مسلم في كل يوم دعوةً مستجابة))، ([3])

وعن ابن مسعود مرفوعًا: ((لله -تعالى -عند كل فطر من شهر رمضان كلَّ ليلة -عتقاءُ من النار ستون ألفًا، فإذا كان يومُ الفطر أَعتَقَ مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفًا)) ([4])

فهذه الأحاديث تفيد حقيقتين مهمتين جدًّا للصائمين في رمضان:

الأولى: كَثْرة العتقاء من النار في أيام الصوم في رمضان بمغفرة ذنوبهم، وقَبول عبادتِهم، وحفظهم من المعاصي التي هي أسباب العذاب، وهذا الوعد بهذا الكسب العظيم يَشْحَذُ هِمَمَ الصائمين للتسابق إلى إحسان عبادتهم، وإخلاص صيامهم، وعِمارة أوقاتهم بما يزيد قُرْبَهم من ربهم، عسى أن يفوزوا بكَرَمه بالعتق من النار.

الثانية: أن لكل عتيق دعوةً مستجابة، وهذا يُحمِّس الصائمين للإكثار من الدعاء وسؤال ربهم إجابةَ دعَوَاتهم، وتلبية حوائجهم، وتفريج كُرَبهم، وتحقيق أمنيَّاتهم، عسى إنْ كانوا من العتقاء أنْ تُستجاب دعواتُهم؛ فليتحرَّ الصائمون إخلاصَ الدعاء، خاصة عند الإفطار.

فرمضان موسم من مواسم العتق من نار جهنم وفيه تتنزل الرحمات وتعم النفحات ويغفر الله للمؤمنين والمؤمنات

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: " تعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده " ([5])

صفة النار :  فإن سألت عن نار جهنم التي ينبغي على كل عاقل أن يخلص نفسه منها حتى لا يعض على أنامل الندم يوم لا ينفع الندم و يكون حاله كما قال الله تعالى { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك: 6 - 11]

{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال الله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ} ([6])

وقودها ودركاتها:

وقود النار: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} (التحريم 6) وقال سبحانه:

{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين} (البقرة 24)

فالناس هم الوقود وهم المعذبون. فسبحان الخالق القادر.

يقول ابن رجب الحنبلي –رحمه الله -وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها من الحجارة: سرعة الإيقاد ونتن الرائحة وكثرة الدخان وشدة الالتصاق بالأبدان وقوة حرها إذا أحميت

 قال عبد الله بن عمير عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود في قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة}

 قال: هي حجارة من الكبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين خرجه ابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ([7])

طعام أهل النار وشرابهم: أهل النار يصيبهم الجوع والعطش، فيطعمهم الله طعاماً يزيدهم عذاباً على عذاب، مما يجدونه من الألم والحر في بطونهم بعد أكله فلا هم يذهبون حرارة الجوع بذلك الطعام، ولا هم يهنؤون, قال تعالى:{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ*لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} (الغاشية 6-7) والضريع نوع من الشوك المر النتن, لا ينفع آكله ولا يشبعه ويعرف عند الحجازيين بالشربق.

شدة حرها: وأما حر الدنيا فإنه يتقى, فقد مد الله لعباده الظل يقيهم الحر, ورزقهم الماء يرويهم من العطش, وأوجد لهم الهواء والريح الكريمة تلطف وتهون من شدة الفيح.

أما في جهنم فإن هذه الثلاثة تنقلب عذاباً على أهلها فالهواء سموم، والظل يحموم والماء حميم. قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ *لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة 41-44] وقال سبحانه: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ *لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ *إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات 30-33]

خوف السلف من النار :

عن أبي ذر، قال: والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، ولو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون، والله لو أن الله خلقني يوم خلقني شجرة تعضد وتؤكل ثمرتي...! ([8])

قال عمر بن الخطّاب-رضي اللّه عنه-لمّا طعن: «لو أنّ لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب اللّه قبل أن أراه! ([9])

قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر –رحمه الله-:

قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به،

قال: يا أخي، إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين

قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، فقال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي، فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكان

ولربما أضجر ذلك امرأتي فتقول يا ويحها: ما خصصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين. ([10])

فحري بمن سمع بهذا الحديث أن يبذل قصارى جهده في الإتيان بالأسباب التي بها فكاك رقبته من النَّار، لا سيما في هذا الزمان الشريف، حيث رحمة الله السابغة، فيا باغي الخير هلمَّ أقبل، فقد صفدت الشياطين، وسجِّرت النيران، وفتِّحت أبواب الجنة، فيا لعظم رحمة الله !!  أي ربٍ كريم مثل ربِّنا، له الحمد والنعمة والثناء الحسن.

فكم لله من عتقاء كانوا في رق الذنوب والإسراف، فأصبحوا بعد ذل المعصية بعز الطاعة من الملوك والأشراف. فلك الحمد

كم له من عتقاء صاروا من ملوك الآخرة بعدما كان في قبضة السعير. فلك الحمد.

فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة.

الطريق إلى العتق من النار

أحباب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بعدما تعرفنا على أن من صفات شهر رمضان أنه شهر العتق من النار، وتعرفنا على حر جهنم وخوف السلف منها، فما هو الطريق إلى العتق من النار؟

الجواب بحول الملك الوهاب: اعلم-زادك الله علما-أنه ما من باب من أبواب الخير إلا ودلنا عليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وما من باب من أبواب الشر والعذاب إلا وحذرنا منه النبي الاواب – صلى الله عليه وسلم-وقد أرشدنا إلى موجبات العتق من النار وهاك بيانها:

أولا: الإخلاص:

فأول الأسباب وأعظمها أن تكون مخلصا لله تعالى في أحوالك وأعمالك وأقوالك

 قال سهل التستري – رحمه الله -في معنى الإخلاص حيث قال رحمه الله تعالى "نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته – أي العبد – وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء لا نفس ولا هوى ولا دنيا ".

 قال الغزالي -رحمه الله-: وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض.

قال الله تعالى﴿ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ومَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وكلمة المخلصين فيها قراءتان بكسر اللام وفتحها، فقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر بكسر اللآم ،  وقرأ الباقون بالفتح ،  والاستدلال بهذه الآية على قراء ة المخلصين بالكسر . 

قال السعدي رحمه الله: يقول الله تعالى:﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنهم غير ذائقوا العذاب الأليم لأنهم أخلصوا لله الأعمال فأخلصهم واختصهم برحمته وجاد عليهم بلطفه.

عَنْ عِتْبَانِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ» ([11])

ومن أظهر علاماته: النشاط في طاعة الله، وأنْ يحب أن لا يطلع على عمله إلا الله.

قيل لذي النون: متى يعلم العبد أنَّه من المخلصين؟

قال: إذا بذل المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة عند النَّاس.

فإذا أردت الفوز بهذه المنزلة العظيمة فجدَّ واجتهد، وشد المئزر، وأرِ الله من نفسك شيئًا يبلغك رضاه، وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، وعلى قدر جدِّك يكون جدُّك،

قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه: والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإنِّي لعلى السبيل ما زغت. ([12])

قيل للربيع بن خثيم: لو أرحت نفسك؟

قال: راحتها أريد.

فجُد بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتك، وتحقيق بغيتك؛ فالمكارم منوطة بالمكاره، والمصالح والخيرات لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب

فكل شيء نفيس يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله،

يقول ابن الجوزي في " صيد الخاطر ": فلله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة، وهم لها سابقون ([13])

ثانيا: إصلاح الصيام:

واعلم -بارك الله فيك-أن من سباب العتق من النار في شهر رمضان أن يصلح الصائم صومه من كل ما يشوبه من رياء أو ارتكاب فعل محرم أو ترك واجب من الواجبات

عن عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصوم جنة يستجن بها العبد من النار [([14])

 قال المناوي – رحمه الله- (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) وأصل الجنة بالضم الترس شبه الصوم به لأنه يحمي الصائم عن الآفات النفسانية في الدنيا وعن العقاب في الأخرى قال القاضي : والجنة بالضم الترس وبالكسر الجنون وبالفتح الشجر المظل وأطلقت على البستان بما فيها من الأشجار وعلى دار الثواب لما فيها من البساتين وثلاثيتها مأخوذ من الجن بمعنى الستر.([15])

والدليل أن الصوم يعدل الرقبة أن الله تعال جعل الله الصيام بدل عتق الرقبة في دية القتل الخطأ وكفارة الظهار قال الله تعالى: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92]

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3 -4]

فإذا كان الصيام بديلاً عن العتق، وإذا كان من أعتق رقبة أُعتق بها من النَّار، فلعل الإكثار من الصيام سبب لنفس الجزاء 

فلابد من تعاهده بالإصلاح، بأنْ يكون صيامًا عن المحرمات، وعدم الوقوع في   المكروهات، وعدم التوسع في المباحات، صيام للجوارح، بل صيام للقلب عن كل شاغل يشغله عن الله، فترفق، ولا تستكثر من أمور الدنيا في رمضان، فرمضان الفرصة الثمينة للفوز بالجنة والنجاة من النار.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم)) ([16]).

عن أبي هريرة -رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ». ([17])

ثالثا: إطعام الطعام للمساكين

و من موجبات العتق من النار أن تطعم الطعام و خاصة شهر رمضان الكريم الذي تجود فيه النفوس وقد جعل الله إطعام الطعام محل العتق في كفارة الظهار {ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ المجادلة : 4]

وجعل إطعام المساكين أو كسوتهم محل عتق الرقاب في كفارة الأيمان قال تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة المائدة :89]

وقد جاء في بعض الإسرائيليات: قال موسى u لرب العزة عزَّ وجل: فما جزاء من أطعم مسكينا ابتغاء وجهك؟ قال: يا موسى آمر مناديا ينادي على رؤوس الخلائق إن فلان بن فلان من عتقاء الله من النار. ([18])

ولإطعام الطعام – لاسيما للفقراء والمساكين – مزية عظيمة في الإسلام، فهو من أفضل الأعمال الصالحة عند الله تعالى:

عن زيد بن خالد الجهني قال: قال صلى الله عليه وسلم: " مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ". ([19])

والأجر الذي للمفطِّر إنما هو لمن أشبع لا لمن ابتدأ بالإطعام، فليس من قدَّم تمرة كمن ذبح شاة وأطعم خبزاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمراد بتفطيره: أن يُشبعه. ([20])

رابعا: إصلاح الصلاة بإدراك تكبيرة الإحرام.

أن تواظب على ادراك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يوما وليلة فتنال بذلك البراءة الربانية من النار و من النفاق فلا يثابر على ذلك إلا مخلص يرجو وجه الله تعالى و يخاف من عقاب منعن أنس – رضي الله عنه-قال: قال: رسول الله-صلى الله عليه وسلم- صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان : براءة من النار و براءة من النفاق [([21])

وهذا مشروع إيماني ينبغي أن تفرغ له نفسك، إنها مائتا   صلاة، فاعتبرها مائتي خطوة إلى الجنة، فهل لا تستحق سلعة الله الغالية أنْ تتفرغ لها؟

وطريقك إلى ذلك أن تتخفف من أعباء الدنيا طوال هذه المدة، وعليك بالدعاء مع كل (صلاة) أن يرزقك الله الصلاة التالية تدرك تكبيرة الإحرام فيها، وهكذا.

واعلم أنَّ إصلاح النَّهار سبيل إلى إصلاح الليل، والعكس صحيح، وهذا يكون باجتناب الذنوب والحرص على الطاعات ووظائف الوقت من أذكار ونحوها، فقط اجعل الأمر منك على بال، واجتهد في تحقيقه، واستعن بالله ولا تعجز، فإن تعثرت في يوم، فاستأنف ولا تمل، فإنَّها الجنة، إنَّه العتق من النار، والسلامة من الدرك الأسفل فيها.

أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

أما بعد : ...............................

خامسا: المحافظة على صلاتي الفجر والعصر.

ومن موجبات العتق من النار أن تكون ممن يوظب على الصلاة الخمس في وقتها وان تواظب على صلاة الفجر والعصر فلهما مزية ليست لغيرهما من الفرائض لذا خصهما النبي – صلى الله عليه وسلم-بتلك المنقبة

عن أبي زهير عمارة بن رؤيبة -رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني: الفجر والعصر ([22])  

تخصيصها بذلك أنَّ وقت الصبح يكون عند النوم ولذَّته، ووقت العصر عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار. ففي صلاتهما دليلٌ على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانه ببقية الصلوات الخمس.

قال الله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور (36: 38)] .([23])

سادسا: المحافظة على أربع ركعات قبل الظهر وبعده

أخي السلم وأنت في شهر رمضان شهر تضاعف فيه الأعمال وترفع فيه الدرجات وتقال فيه العثرات فعليك بتخليص رقبة من نار جنهم ومما يعتق رقبتك من النار أن تواظب على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربعا بعدها ففيهم خلاص وفيهم تحريم جسدك على النار

عن أم حبيبة -رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "من يُحافِظْ على أربعِ رَكَعاتٍ قبلَ الظُّهرِ، وأربع بعدَها، حرَّمه اللهُ على النار" ([24])  

فهذا الفضل لا يحصل إلا لمن حافظ على هذه الركعات، وبعض العلماء يرى أنَّها سنة مؤكدة لما لها من جزاء عظيم.

فإذا وجدت نفسك تستصعب هذا فذكرها {حرَّمه الله على النار} وألح عليها تعتاده، وإنه ليسير على من وفقه الله تعالى 

 ثامنا: البكاء من خشية الله تعالى

و نحن في شهر تلين فيه القلوب و تخشع فيه و ذلك لكثرة ما فيها من طاعات و قربات و وكذب البعد عن المعاصي و المخالفات مما يزيد في إيمان العبد و يجعل قلبه رقيقا و دمعه غزيرا، فانظر اليهم و هم في صلاة التراويح و قد وجلت قلوبهم، و دمعت عيونهم، وخشعت جوارحهم، فتسمع الأنين، و البكاء، و ترى التضرع و الرجاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم )) ([25])

فهنيئًا لك إذا صحت لك دمعة واحدة من خشية الله، فإنَّ القلوب تغسل من الذنوب بماء العيون، والبكاء قد يكون كثيرًا لاسيما في رمضان ومع سماع القرآن في صلاة التراويح والتهجد، ولكن كما قال سفيان الثوري: إذا أتى الذي لله مرة واحدة في العام فذلك كثير

ويكفي أنَّ من رزق تلك الدمعة قد اختصه الله بفضل لا يبارى فيه

تأملوا عباد الله في حال سيد الرجال – صلى الله عليه وسلم-فعن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه -قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي ولجوفه أزيز ([26]) كأزيز المرجل([27]) من البكاء) ([28])

دمعة مالحة تكون لخطاياك ماحة ولرقبتك معتقة يا لها من دمعة غالية ترفع صاحبها جنة عالية

أيها الباكي من خشية الرحمن ها أنت  في ظل عرش الرحمن يوم الحشر : فأنت من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : «سَبْعَة يظِلُّهمُ الله في ظِلِّهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه : الإمامُ العادلُ ، وشابّ نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل قلبه مُعَلَّق بالمسجد ، إذا خرج منه حتى يعودَ إليه ، ورجلان تحابَّا في الله ، اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه ، ورجل دَعَتْهُ امرأة ذاتُ مَنْصِب وجمال، فقال : إني أخافُ الله ، ورجل تَصدَّق بصدقة فأخْفاها حتى لا تعلم شمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينه ، ورجل ذَكَرَ الله خاليا ففاضت عيناه».([29])

قال خالد بن معدان: إنَّ الدمعة لتطفئ البحور من النيران، فإنْ سالت على خد باكيها لم ير ذلك الوجه النَّار، وما بكى عبد من خشية الله إلا خشعت لذلك جوارحه، وكان مكتوبًا في الملأ الأعلى باسمه واسم أبيه منورًا قلبه بذكر الله) ([30])

فنعوذ بالله من عين لا تدمع من خشيته، ونسأله عينًا بالعبرات مدرارة، وقلبًا خاشعًا مخبتًا.

 



[1] - أخرجه أحمد (2/254، رقم 7443) قال الهيثمي (10/216): رجاله رجال الصحيح. انظر صحيح الجامع: 2169

[2] - رواه ابن ماجه: (1643)، وقال الحافظ البُوصيري: "رجال إسناده ثقات". صحيح الترغيب والترهيب: 1001

[3] - أخرجه البزار: (962) من "كشف الأستار"، وفي سنده أبان بن أبي عيَّاش وهو ضعيف، وليُنظر: "مجمع الزوائد": (3/ 143)، و(10/ 149).

[4] - رواه البيهقيُّ في "شُعَب الإيمان": (3606) وقال المُنذري: "وهو حديث حسن لا بأس به في المتابعات".

[5] - أخرجه الطبراني ح 720 , و البيهقي ح 1121 , انظر الصحيحة: 1890

[6] - تفسير ابن كثير-ط دار طيبة (8/ 178)

[7] - التخويف من النار (ص: 134)

[8] - مصنف ابن أبي شيبة (13/341) ، مصنف عبد الرزاق (7/123) ، حلية الأولياء (1/164) .

[9] واه البخاري 3692

[10] - حلية الأولياء [5/164]

[11] - أخرجه أحمد (5/449 ، رقم 23821) ، والبخاري (5/2360 ، رقم 6059)

[12] - جامع الأحاديث (25/ 228) أخرجه ابن عساكر (30/415)

[13] -

[14] - رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني (3867) في صحيح الجامع]

[15] - فيض القدير (4/ 319)

[16] - أخرجه مالك (1/310، رقم 682)، والبخاري (2/673، رقم 1805)، ومسلم (2/806،

[17] - أخرجه أحمد (2/443، رقم 9717)، والبخاري (5/2251، رقم 5710)،

[18] -. [حلية الأولياء (6/19)]

[19] - رواه الترمذي (807) وابن ماجه (1746). وصححه ابن حبان (8 / 216) والألباني في " صحيح الجامع " (6415).

[20] - " الفتاوى الكبرى " (4 / 460).

[21] - [رواه الترمذي وحسنه الألباني (6365) في صحيح الجامع]

[22] - أخرجه أحمد (4/136، رقم 17259)، وأبو داود (1/116، رقم 427)، ومسلم (1/440، رقم 634) ، والنسائي (1/235 ، رقم 471)

[23] - تطريز رياض الصالحين (ص: 612)

[24] - رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 326)، والنسائي (1816 وأبو داود (1269)، والترمذي (428) وصححه الألباني (584) في صحيح الترغيب]

[25] -أخرجه ابن ماجه (2774)، والترمذي (1633) وصححه الألباني (7778) في صحيح الجامع]

[26] -أي: صوت البكاء وهو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. النهاية 1/45

[27] - أي: الإناء الذي يغلى فيه الماء. النهاية 4/315.

[28] -أخرجه: أبو داود (904)، والترمذي في " الشمائل " (322)، والنسائي في " الكبرى " (545).

[29] - أخرجه: البخاري 2/138 (1423)، ومسلم 3/93 ( 1031 ) ( 91 ) .

[30] -. [الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص(48)]

خطبة رمضان شهر العتق من النار.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf