الورد والآس من مناقب ابن عباس.pdf


الورد والآس من مناقب ابن عباس

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون المبارك مع سيرة لا كالسير و مع علم لا كالأعلام

سيرة أقدمها الأطفال الأمة الإسلامية ليتعوفوا على طفولته ونبوغه وحرصه وأدبه  

سيرة أقدمها لشباب الأمة الذي يتهافت على التفاهات ويقضي وقته أمام المحرمات ليتعلموا من سيرته الجد والاجتهاد والإقبال على ما ينفع البلاد والعباد

سيرة أقدمها لطلاب العلم ليعلموا أن العلم لا يناله كسول ولا خمول وإنما ينال بعلو الهمة والصبر على تحصيله

سيرة أقدمها لعلماء الأمة حتى يتعلموا منها المنهج الوسطي والاستنباط الفقهي والبعد عن التطرف الفكري والعقدي

إنها سيرة حبر الأمة وترجمان القرآن...إنه خريج مدرسة النبوة، إنه الفائز بدعاء خير البرية صلى الله عليه وسلم، إنه المناضل المجاهد بالحجة والبيان.... إنه عبد الله بن عباس رضي الله عنه  

بطاقة تعريف وتشريف

أتدرون أيها الكرام من هو وما هو نسبه وحسبه: هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، أبو العباس، الحبر البحر، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الخلفاء [[1]]

 أمُّه أمُّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلاليَّة، وُلِد وبنو هاشم بالشِّعب قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل بخمس، والأول أرجح، وكان له عند موت النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم ثلاث عشرة سنة [[2]

وقيل غير ذلك؛ فعن عبد الله بن عباس قال: «قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين مختون» [[3]

 وفي رواية: (وأنا ابن خمس عشرة سنة) [[4]

وكان يُكنَّى أبا العباس، وهو حبر الأمَّة [[5]]، وتُرجُمَان القرآن [[6]

 فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: «نَعَمْ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ» [[7]

صفات ابن عباس الخلقية-رضي الله عنه-:

معاشر الأحباب لقد حلاه الله بالجمال والكمال الخلقي فقد كان عبد الله بن عباس أبيض، طويلًا، مشربًا صفرة، جسيمًا، وسيمًا، صبيح الوجه، له وفرة، يخضب بالحناء.

قال ابن جريج: كنا جلوسًا مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس، فقال عطاء: ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة إلا ذكرت وجه ابن عباس؛[[8]].

 كان رضي الله عنه من أطيب الناس ومن أعطر الناس قال عكرمة: كان ابن عباس إذا مرَّ في الطريق، قالت النساء في البيوت: أمَرَّ بائعُ المسك، أم مَرَّ ابن عباس؟ [[9]].

إسلام ابن عباس-رضي الله عنه-

 لقد بادر الغلام الهمام رضي الله عنه إلى الدخول في الإسلام فقد" أسلم عبدالله بن عباس قبل أبيه، وهاجر مع أبويه إلى المدينة عام فتح مكة؛ أي: في العام الثامن من الهجرة؛[[10]].

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء؛[[11]].

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس-رضي الله عنه-:

إخوة الإسلام ما نال ابن عباس رضي الله عنه ما ناله من علم وفقه و فهم عميق إلا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له فقد فاز رضي الله عنه الدعوات المباركات المستجابات من فم سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن ابن عباس، قال: ضمَّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: ((اللهم علِّمْه الحكمة)) [[12]]

روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءًا، قال: ((من وضع هذا؟)) فأخبر، فقال: ((اللهُمَّ فقِّهْه في الدين))؛ [[13]

روى أحمد عن عبدالله بن عباس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فصلَّيتُ خلفه، فأخذ بيدي، فجرني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لي: ((ما شأني أجعلك حذائي فتخنس؟))، فقلت: يا رسول الله، أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟

قال: فأعجبته، فدعا الله لي أن يزيدني علمًا وفهمًا؛[[14]

عبد بن عباس في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم:

 معاشر الأحباب  في مدرسة النبوة تربى و ترعرع فنهل من معينها و عبل من  أنهارها، فتعلم العلم و الفقه من فم الحبيب صلى الله عليه وسلم، أقبل على طلبه و تعلمه إقبال العطشان على الماء البارد في اليوم الصائف،  تعلم العبادة في بيت النبوة روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة ليلةً، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضَّأ من شن معلق (قربة) وضوءًا خفيفًا، ثم قام يُصلِّي، فقمت، فتوضَّأت نحوًا مما توضَّأ، ثم جئتُ فقمت عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، فأتاه المنادي يأذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضَّأ؛ [[15]]

 ومن مناقبه رضي الله عنه أنه ناله شرف الركوب خلف النبي –صلى الله عليه وسلم و نال الوصايا النبوية التي تربى  عليها و جعلها له دستورا في حياته العلمية و العملية الدينية و الدنيوية  روى الترمذي عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: ((يا غلامُ، إني أُعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصُّحُف))؛ [[16]]  .

علو همة ابن عباس-رضي الله عنه-على طلب العلم:

 أمة الإسلام: لقد رزق الله تعالى عبد الله بن عباس بنفس تواقة وهمة عالية وإرادة قوية فقد كان حريصا كل الحرص على طلب العلم والسؤال عنه وطلبه من مظانه

 وكان عمر -رضي الله عنه-إذا ذكره قال: ذلك فتى الكهول له لسان سؤول، وقلب عقول.[[17]]

 روى الحاكم عن عبد الله بن عباس، قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير"، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال: "فتركت ذاك، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه، وهو قائل فأتوسَّد ردائي على بابه يسفي الريح عليَّ من التراب فيخرج فيراني"، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: "لا، أنا أحق أن آتيك"، فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني"؛[[18]

قال عبد الله بن عباس: كنت أسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ [[19]]

روى ابن سعد عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمِعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدًا منهم إلا سُرَّ بإتياني؛ لقُربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أُبيَّ بن كعب يومًا، وكان من الراسخين في العلم عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة؛[[20]].

عبادته وخشيته -رضي الله عنه-:

 أحبتي في الله : لقد ترجم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ذلك العلم إلى واقع محسوس ملموس يراه الناس فالعمل هو ثمر العلم و علم بلا ثمرة كالشجرة بلا ثمر، لقد أورق علمه و أثمر الخشية و الخوف من الله تعالى قال ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين، فإذا نزل، قام شطر الليل، ويُرتِّل القرآن حرفًا حرفًا، ويُكثِر في ذلك من النشيج والنحيب؛ [[21]].

قال أبو رجاء: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء[[22]]

منزلته العلمية وثناء العلماء عليه :

هيا أيها الإخوة الكرام لنشف الآذان بثناء العلماء على ابن عباس و بيان منزلته العلمية و مكانته الفقهية

 قال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس، فإذا نطق، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدَّث، قلت: أعلم الناس [[23]].

قال عكرمة (مولى ابن عباس): كان ابن عباس في العلم بحرًا ينشق له الأمر من الأمور؛ [[24]].

وقال طاوس: أدركت نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عباس، فخالفوه، فلم يزل يُقرِّرهم حتى ينتهوا إلى قوله؛ [[25]].

قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا ألبَّ لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا نجاوز قوله (نسير تبعًا لرأيه) وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار؛[[26]].

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يُدخِلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لمَ تُدخِل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال: إنه ممَّن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رُئيتُه دعاني يومئذٍ إلَّا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾ [النصر: 1، 2] حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا بن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ فتح مكة فذاك علامة أجلك ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]، قال عمر: ما أعلم منها إلَّا ما تعلم؛ [[27]]

ذكائه وسرعة وبدهيته رضي الله عنه:

 أيها الاخوة الكرام لا شك أن كلما ازداد علم الإنسان زادت فطنته وحدَّ ذكاءه وصار ذا كياسة وحكمة، فما بالنا بمن تعلم على يد النبي بل ودعا له بالتفقه والتبحر فيه، فلا شك أنه من أكثر الناس حكمة، ولا أدلَّ على ذلك ممَّا رواه ابن عباس نفسه عن موقفه مع الخوارج الحرورية؛ حيث قال رضي الله عنه:«لَمَّا اعْتَزَلت الْحَرُورِيَّةَ فَكَانُوا فِي دَارٍ عَلَى حِدِّتِهِمْ فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْرِدْ عَنِ الصَّلَاةِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَأُكَلِّمَهُمْ، قَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفُهُمْ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْيَمَانِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ قَوْمًا قَط أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثَفِنُ الْإِبِلِ، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّمَةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ نَزَلَ الْوَحْيُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُحَدِّثُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَنُحَدِّثَنَّهُ، قَالَ: قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَا تَنْقُمُونَ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ؟ قَالُوا: نَنْقُمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَوَّلُهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا قَالُوا: وَقَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ لَئِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا قَالُوا: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ. قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُحْكَمِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا تُنْكِرُونَ، أَتَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: "حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ"؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إِلَى قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحْكُمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلْ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، قَالَ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: "إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ"؛ أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينِ فَقَدْ كَفَرْتُمْ وَخَرَجْتُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ؛ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. فَأَنْتُمْ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ فَاخْتَارُوا أَيَّتَهُمَا شِئْتُمْ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: "مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ"؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ: «اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ». فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: "وَاللَّهُ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ». «فرجع منهم عشرون ألفًا، وبقي منهم أربعة آلاف فقُتِلوا»[[28]].

روى عبدالرزاق بن همام، عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فقال ابن عباس: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني (انتهرني) عمر، ثم قال: مه، قال فانطلقت إلى أهلي مكتئبًا حزينًا، فقلت: قد كنت نزلت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلة، فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه، فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي، وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبلني به عمر، فبينا أنا على ذلك أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين، فخرجت فإذا هو قائم ينتظرني، فأخذ بيدي ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفًا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأت فإني أستغفر الله وأتوب إليه وأنزل حيث أحببت، قال: لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، متى ما تسارعوا هذه المسارعة يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها [[29]]

وفاته رضي الله عنه

 و حان وقت الرحيل ليرحل حبر الأمة و ترجمان القرآن بعدما ملأ الدنيا علما وفهما بعدما سطر سطورا من نور و ترك لنا مصابيحا تنير لنا في دروب الحياة تُوفي عبد الله بن العباس رضي الله عنه بالطائف سنة ثمانٍ وستِّين هجريًّا[[30]]، وهو الأشهر عند المؤرخين

وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وكبَّر عليه أربعًا، وقال: اليوم مات ربَّانِّيُّ هذه الأمَّة. وضرب على قبره فسطاطًا[[31]].

قالوا عنه بعد وفاته رضي الله عنه:

قال مجاهد بن جبر: ما رأيت أحدًا قطُّ مثل ابن عباس؛ لقد مات يوم مات، وإنه لحَبْر هذه الأُمَّة؛[[32]]

قال محمد ابن الحنفية، لما دفن ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة؛ [[33]]

لما مات عبدالله بن عباس، قال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب في العلم[[34]]  

عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقته حتى دخل في نعشه، ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يرى من تلاها {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر: 28]. قال مروان: وأما إسماعيل بن علي، وعيسى بن علي، فقالا: هو طائر أبيض. [[35]]

الدعاء .................................

 

 

 

 

 

 



[1] - نكث الهميان في نكت العميان،، ص160.

[2] - الإصابة في تمييز الصحابة، 4/122.

[3] - أحمد (3358)، والطبراني (10597).

[4] - الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، 24/192.

[5] -: أنساب الأشراف، 4/27.

[6] - الطبقات الكبرى، تحقيق: 1/495

[7] - الحاكم (6291)، وقال: هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه،

[8] - (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 336)

[9] - (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 337)

[10] - (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 333)

[11] - (البخاري، حديث:1357)

[12] - (البخاري، حديث:3756).

[13] -(البخاري حديث:143).

[14] -(حديث صحيح) (مسند أحمد، جـ 5، صـ 178 حديث:3060).

[15] -(البخاري حديث:859).

[16] -(حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني حديث:2043)

[17] - سير أعلام النبلاء ط الحديث (4/ 386)

[18] -(إسناده صحيح) (مستدرك الحاكم، جـ 1، صـ 188).

[19] -(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 344).

[20] -(الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، جـ 2، صـ 284 - 283)

[21] -(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 352)

[22] - (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 352).

[23] -(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ3، صـ351)

[24] -(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي جـ3، صـ354)

[25] -(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ3، صـ351)

[26] -(الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، جـ 2، صـ 282:281)

[27] -(البخاري، حديث:4294).

[28] -المصنف (18678)، والطبراني في المعجم الكبير (10598)، ويعقوب الفسوي: المعرفة والتاريخ، 1/522- 524.

[29] - (إسناده صحيح)، (مصنف عبدالرزاق، جـ11، صـ217، رقم 20368).

[30] -: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/934.

[31] - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/934، والصفدي: الوافي بالوفيات، 17/122.

[32] - (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ3، صـ350).

[33] - (الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، جـ 2، صـ 280).

[34] -(الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، جـ 2، صـ 284).

[35] -أخرجه أحمد بن حنبل في كتابه فضائل الصحابة (ج2/ص962) ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير (ج10/ص236)


الورد والآس من مناقب ابن عباس.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf