خطبة الاتحاد قوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أنموذجا.pdf



خطبة الاتحاد قوة [المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أنموذجا]

الشيخ السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى  

أما بعد: معاشر الموحدين المتحدين: حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن [الاتحاد قوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أنموذجا] لنتكلم عن أهمية الاتحاد وأن الاتحاد قوة وأن التفرق ضعف، و أن الاتحاد به صلاح البلاد و العباد، وأن الاتحاد به القوة و المنعة، وأن الاتحاد به العزة و الرفعة، وأن الاتحاد سبيل التقدم و الرقي ، وأن الاتحاد سبيل النصر على الأعداء ..... لنأخذ أنموذجا تطبيقا للاتحاد ولن نجد في مقامنا هذا أروع من المؤاخاة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ليخلق مجتمعا متآلفا مجتمعا يحنو فيه القوي على الضعيف، والغني على الفقير، والصحيح على السقيم مجتمعا النصرة والقوة فأعيروني القلوب والأسماع

وفي التوحيد للهمم اتحاد     ولن تبنوا العلا متفرقين

ألم يبعث لأمتكم نبي    يوحدكم على نهج الوئام

ومصحفكم وقبلتكم جمعياً     منار للأخوة والوئام

مفهوم وحدة الأمة الإسلامية:

 أحبتي في الله: وحدة الأمة الإسلامية هي: اجتماع المنتسبين إلى الإسلام على أصول الدين وقواعده الكلية، وعملهم معا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وبذلك يحققون معنى الأمة كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة آل عمران: 110]،

ثانيا: جوب الوحدة والاعتصام:

اعلم -علمني الله تعالى و إياك- : أن الله تعالى  أوجب علينا الوحدة و الاتحاد و جعل ذلك رمزا للإيمان و الانقياد له- سبحانه و تعال-ى فقال -جل ذكره- أمرا مذكرا بفضله علينا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]

قال القرطبي رحمه الله: "فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:

إن الجماعة حبـل الله فاعتصموا      منه بعروته الوثقى لمن دانا([1])

وأخرج الطبري عن عبد الله بن مسعود قال: (حبل الله الجماعة)

في صحيح مسلم ٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)).

يقول عدي بن زيد العبادي:

وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر    إذا حضرت أيدي الرجال بمشهد

ومن لم يكن ذا ناصر عند حقه      يغلب عليه ذو النصير ويضهد

وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)) رواه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة.([2])

ولقد أمركم الله تعالى بنبذ الخلاف والخصام والعمل على احتواء الخلافات مذكرا لنا بالإخوة الإيمانية: قال الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]

وقال جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]

فهذه الأدلة تأمر المسلمين بالأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف

سبب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والهدف منها:

إخوة الإسلام: كان لازما وأجل مسمى أن يعقد النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة وذلك لأن الهجرة أدت إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين، والمنافقين، واليهود.

لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لا بد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي، وهو: المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] [الحجرات: 10].

وأوجب عليهم: الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وتهدف قصّة المؤاخاة إلى تمتين عُرىٰ الروابط بين المسلمين وتأكيدها، واستئصال جذور الجاهليّة والتعصُّب، وهي رابطة تقوم على أساس الإيمان بالله عزَّ وجلَّ وباليوم الآخر ووحدة الهدف والغاية.

لقد «كان الصراع داخل المدينة متوتراً بين الأوس والخزرج، ولكنَّ الإسلام جعلهم موحَّدين أنصاراً، وبمؤاخاتهم مع المهاجرين تحقَّقت للإسلام أرضية جديدة، كان مقدَّراً لها أن تغيِّر تأريخ المدينة أولاً ، وجزيرة العرب فيما بعد ثانياً »

رباط الإخوة رباط الاتحاد والقوة:

إن من أعظم الوشائج التي تربط بين الأمة رابطة الإخوة في الله تعالى و لقد قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]

وأصل النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الرابطة عن سالم. ٍعن أبيه، أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلِمُهُ ولا يُسلِمُهُ، مَنْ كان في حاجَةِ أخيهِ، فإنَّ الله في حَاجَتِهِ، ومَن فرَّجَ عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه بها كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ سترَ مسلماً، سَترَهُ اللهومَ القيامة"([3])

أيها المسلمون: العمل بهذا الحديث من أعظم الأسباب الموصلة للتآلف بين المسلمين وقلة الشحناء بينهم فالمؤمنون إخوة في النسب أبوهم آدم وأمهم حواء لا يتفاضلون إلا بالتقوى وأخوة في الدين قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ، وَأَدْخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ »رواه البخاري ومسلم ([4])

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " إِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » رواه البخاري ومسلم،([5])

عقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد المؤاخاة بين الطرفين: المهاجرين والأنصار، فآخى بين كل مهاجري وأنصاري، مع أن الأنصار تبرعوا وأعطوا، لكن الأعداد زيادة على التبرعات، فحلت القضية بما يلي: كل أنصاري معه مهاجري، لا يوجد مهاجري ما عنده مكان ما عنده بيت ما عنده مال، إلا ويوجد أنصاري يقوم بالتآخي معه، وشملت المؤاخاة تسعين رجلاً، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين أنصاري.

وترتب على هذا التشريع حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة، والمواساة، هي: تقديم جميع أوجه العون، سواء كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاوراً أو محبة، وحتى التوارث، كان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجري، وإذا مات المهاجري يرثه الأنصاري، يرثه بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله -تعالى-: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75].

فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وكان مشروعاً يرثه تماماً إذا مات، وكان مشروعاً يرثه تماماً، إذا مات يرثه.

قد ذكر ابن إسحاق في السيرة، عددا كبيرا ممن آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بينهم، فقال: وآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، من المهاجرين والأنصار فقال - صلى الله عليه وسلم -: " تآخوا في الله ؛ أخوين أخوين " - [ الحديث: ذكره ابن إسحاق بلاغا، كما في ([6])

الترجمة التطبيقية للمؤاخاة: اتحاد وعطاء وبذل وسخاء:

تاريخنا من رسول الله مبدؤه     وما سواه فلا عز ولا شان

محمد أنقذ الدنيا بدعوته        ومن هداه لنا روح وريحان

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَطُّ أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ مِنَ الأَنْصَارِ لَقَدْ صِرْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَإِ إِنَّا لَنَخْشَى أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ قَالَ لَا مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ وَدَعَوْتُمْ لَهُمْ ».([7]).

إيثار الأنصار المهاجرين على أنفسهم:

وعن ابن عمر قال: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم. رواه مسلم، ([8]).

بين إيثار سعد بن الربيع وعفة عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنهما :

ويجسد لنا عبد الرحمن بن عوف هذه المؤاخاة التي لم ولن تعرف البشرية لها مثيلاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسد لنا عبد الرحمن هذه المؤاخاة تجسيداً بليغاً، والحديث في الصحيحين، يقول عبد الرحمن: [آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال لي سعد -وكان من أكثر الأنصار مالاً: يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها]..

أسألكم بالله أن تتدبروا في هذا الكلام، فأرجو ألا يمر على آذاننا هكذا، العربي عنده غيرة، وشهامة، ورجولة! فلو قال: سأقسم مالي بيني وبينك شطرين لكان الأمر هيناً، لكن انظر إلى الثانية وما أعجبها وأجملها: [وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].

فقال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين السوق؟] فدله على سوق بني قينقاع فذهب عبد الرحمن فباع واشترى، ثم منَّ الله عليه بالربح، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه أثر صفرة، أي عليه أثر الطيب فقال له النبي: (مهيم) أي: ما لي أشم عليك رائحة الطيب يا عبد الرحمن؟ فقال: [تزوجت امرأةً من الأنصار يا رسول الله! قال: (وما سقت لها) قال: سقت إليها مقدار نواة من ذهب] ([9]).

محل الشاهد ما قاله سعد بن الربيع وما قاله عبد الرحمن؟ فقد يئن الآن كثيرٌ من الإخوة ويقولون: رحم الله زمان سعد بن الربيع، أين من يعطي الآن عطاء سعد؟ وأنا أقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن؟ لقد انطلق رجلٌ إلى أحد السلف وقال له: أين من ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فقال له: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً..

الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:

إن المؤاخاة على الحب في الله أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، إذا ما وهنت وتآكل كل بنيانها ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله، في المجتمع المسلم الجديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظليّ»([10]) .

كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم تحث الصحابة على معاني الحب والتكافل، واحترام المسلمين بعضهم بعضاً، فلا يستعلي غني على فقير، ولا حاكم على محكوم، ولا قوي على ضعيف، وكان للحب أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً وكان أحب أمواله إليه بيُرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت : ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران آية : 92).

قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله يقول ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحبّ أموالي "بيُرحاء"، وإنها صدقة لله، أرجو برّها، وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمّها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه([11])،  .

النصيحة بين المتآخين في الله:

إخوة الإسلام :كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»([12]).

العقيدة أساس البناء:

حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(المائدة:51)..ولذلك كان التآخي بين المهاجرين والأنصار مسبوقا بعقيدة التوحيد وقائما عليها، فالعقيدة هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت في المدينة، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية لله عز وجل دون الاعتبار لأي فارق، إلا فارق التقوى والعمل الصالح، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13).. ومِن ثم لم تكن هذه المؤاخاة شعاراً لا يظهر له أثر، بل كانت واقعا قائما على الإيمان بالله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9).. تعلَّم الصحابة ذلك وتربوا عليه، فكان ولاؤهم لله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ تاريخهم بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم وتحقيقهم لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وإخوانهم.

الحب في الله:

المؤاخاة على الحب في الله مِنْ أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم. ([13]).

فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي و لكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

أما بعد:

القضاء على الفوارق الجاهلية:

 لقد كانت المؤاخاة  من أعظم  الأسس التي قضت على فوارق الجاهلية من التفاخر بالنسب والقبيلة والجاه وغير ذلك مما كان سائدا حينئذٍ في تلك المجتمعات، حيث سادت العصبية وكانت دينا عندهم، فكان من أهداف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذابة هذه الفوارق، لأنها أمراض وآفات تضعف المجتمع، وتحول بينه وبين القوة والتمكين، لأنه مِن الصعب بل من المستحيل أن تُستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم يحدث التآخي بين أفراد المجتمعات والأمة الإسلامية، ومن ثم كانت المؤاخاة نعمة من نعم الله عز وجل، ومِن أسباب القوة والعزة والثبات أمام الأعداء، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103) ..

لقد ساهمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في تقوية المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، وبتحقيقها ذابت العصبية وحظوظ النفس، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين، وأشاعت في المجتمع عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة مِنَ الأخوة والعطاء، والتناصح والإيثار، وجعلته جسدا واحدا في السراء والضراء، والآلام والآمال، ومِن هنا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في جَعْل أول عمل يقوم به حين مقدمه المدينة، - بعد بناء المسجد - تأسيسه للمجتمع على المؤاخاة، والتي كانت حلا لكثير من المشاكل، وأهلَّت المسلمين ليكونوا أقوى أمة على الأرض.. فما أحوجنا إلى التحقق بهذه المؤاخاة للصمود في وجه الأعداء، ومواجهة التحديات التي تواجه أمتنا في هذه الأيام.

الإخوة اتحاد وقوة:

معاشر الموحدين: نحن نتساءل بالليل والنهار "متى نصر الله" والقلوب متخاصمة، والأرواح متنافرة، والجفاء والشقاق حقيقة حقيقية، لا نصر إلا بالحب، ولا تقدم إلا بجمع القلوب، إيمان بالله قوي، وأخوة ناصحة صادقة،

إن العصر الحاضر هو عصر التكتلات والتجمعات والأحلاف القوية، التي لا تعرف غير مصالحها وإن كانت على حساب الآخرين ومصالحهم بل ووجودهم، فهي تكتلات لا تعرف الرحمة، بل ولا العدل، ولذا لم يَعُد في عصرنا الحاضر -مع الأسف -مكان للضعفاء أو المتفرقين الممزقين.

وعلى سبيل المثال فها هي أوربا الآن قد سعت بكل جهدها لتحقيق الوحدة الكاملة فيما بين بلدانها العديدة، فأقامت الأحلاف والتنظيمات والمعاهدات في كافة المجالات وشتى الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية... وغيرها، للوصول إلى تلك الوحدة والاندماج التام الذي يجعل منها كيانًا واحدًا، وزعماء أوربا ماضون في هذا السبيل بكل جِدٍّ، وفي كل يوم نراهم يتقدمون خطوة لترسيخ وحدتهم وحلفهم.

فلماذا يبقى المسلمون هائمين على وجوههم في أودية التيه، وخلف رايات التفرق، دون أن يلتئم شملهم برباط الدين وأخوة الإسلام، التي جعلهم الله عز وجل بها أمة واحدة، وجسدا واحدا إذا اشتكى بعضُه اشتكى كلُّه؟!

ويقول لورانس براون: «إذا اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهما يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير» [[14]].

ويقول ألفريد كانتول سميث: «إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية والتعلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية إلى العالم الإسلامي، بغرض إذلاله وتحقيره، وإشعاره بالضآلة والخنوع، وإن الغرب وقف في صف الصهيونية ضد العرب والمسلمين، متأثراً بتلك العداوة القديمة بين المسيحية والإسلام»[[15]].

اتحدوا و تآخوا تنصروا و إلا تكون النتيجة كما قال شاعر الأندلس:

ماذا التقاطع في الإسلام بينكــــــمُ    وأنتم يا عباد الله إخــــــــوانُ

ألا نفـــــــوس أبّيات لها همــــــم   أما على الخير أنصارُ وأعوانُ

لمثل هذا يذوب القلـــــــــب من كمدٍ       إن كان فى القلب إسلامُ وإيمانُ

فجائع الدهــــــــــــــر أنواع منوعـــــةٌ       وللزمان مسرات وأحزانُ

وللحـــــوادث سُلـــــونُ يُســـــــهلها     وما لما حل للإسلام سلوانُ

يا رُبَّ أم وطفـــــــــل حِيــــــل بينهما      كما تفرقُ أرواح وأبـــــــدان

وطفلة مثل حُسن الشمس إذ طلعت    كأنما هى ياقوتُ ومرجــان

يقودها العْلِج للمكروه مكرهـــــــــــةً       والعين باكية والقلب حزنانُ

 إخوة الإسلام : من أعظم ثمرات المؤاخاة الاتحاد عند الأزمات وعند مواجهة العدوان ولقد رأينا ذلك واضحا جليا في غزوة أحد حيث خرج المهاجرون والأنصار يدا واحدة على عدوهم

ورأينا ذلك في غزوة الأحزاب لما جاءت قريش وقبائل العرب وخان اليهود وخذل المنافقون رأينا اتحادا ذابت أمامه جحافل الطغيان وانهزمت أمامه جيوش أولياء الشيطان

ولله در القائل:

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى   خطب ولا تتفرقوا أفراداً

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً    وإذا افترقن تكسرت آحادا

الدعاء ...............................................

 



[1] - تفسير القرطبي (4/ 159)

[2] - أخرجه مالك "الموطأ" 2639. والحميدي" 1183 و"أحمد" 3/110 (12097) والبخاري" 8/23 (6065) و"مسلم" 8/8 (6618)

[3] -أخرجه مسلم (2580)، والترمذي (1489)، والنسائي في "الكبرى" (7251)

[4] -أخرجه البخاري 1/129. وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 1999

[5] - أخرجه مسلم - 4/ 1999، رقم 66). وأخرجه البخاري - 5/ 2238، رقم 5665)

[6] -"السيرة"، لابن كثير (2/324)، وعنه ابن هشام. وانظر: "جمع الجوامع"، للسيوطي (4/459)، والتعليق عليه] –

[7] - مسند أحمد ط الرسالة (20/ 360) (13075) صحيح

[8] - ابن أبي الدنيا في الإخوان ج 1/  ص 202 حديث رقم: 157

[9] - صحيح البخاري (3/ 52) (2048)

[10] - أخرج مسلم في صحيحه رقم (37/ 2566) وأحمد (2/ 237) والدارمي (2/ 312)

[11] - أخرجه البخاري في: 24 كتاب الزكاة على الأقارب

[12] - أخرجه البخاري (3/ 49)، (8/ 40)، والترمذي (2413) وابن خزيمة [2144]

[13] - أخرجه مسلم في صحيحه رقم (37/ 2566) وأحمد (2/ 237) والدارمي (2/ 312)

[14] -الفكرُ الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. - محمد البهي، ص 525،

[15] - من التبعية إلى الأصالة، أنور الجندي، ص 16

خطبة الاتحاد قوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أنموذجا.pdf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خطبة فيض الإله بخلق المواساة.pdf

الحقوق العشر للوطن في الإسلام

خطبة الحفاظ على الأوطان من المعاصي التي تدمر البلدان.pdf